رضا حريري-
يصوّر زياد الرحباني في أغنية «كيفك أنت؟» (تغنّيها فيروز، والدته)، لقاءً بين حبيبين بعد وقتٍ طويل على افتراقهما. وهذه الأغنية هي من أكثر أغنيات زياد الرحباني وضوحاً من ناحية السرد ربّما.
يدور الكلام في الأغنية على لسان الفتاة وحدها، هي المتكلم، أما الحبيب السابق فهو المخاطَب والمُستمع فقط. تبدأ الأغنية بتصوير اللقاء («بتذكر آخر مرة شفتك سنتها. بتذكر وقتها آخر كلمة قلتها. وما عدت شفتك وهلأ شفتك. كيفك أنت؟ ملّا أنت»). وسرعان ما يفتح هذا اللقاء الباب أمام الذكريات. لا تكتفي الفتاة بتذكّر ما فات، بل تدخل حبيبها في هذه العملية لتذكّره هو أيضاً ولتسائله («بتْذكر آخر سهرة سهرتها عنّا. بتذكر كان في واحدة مضايق منها. هيدي أمي، بتعتل همي منّك أنت ملّا أنت»).
بعد التذكّر والتذكير هذا، تعود الفتاة إلى الحاضر («كيفك، قال عم يقولوا صار عندك ولاد. أنا والله كنت مفكرتك برات البلاد»)، ممّا يؤجّج فيها الحنين، الذي يؤجّج بدوره الرغبة باستكمال ما توقّف («بيطلع ع بالي إرجع أنا ويّاك. إنتَ حلالي إرجع أنا ويّاك»). لتعود بعدها إلى الماضي، وتحديداً إلى لحظة الانقطاع بينهما («بتذكر آخر مرة شو قلتلي. بدك ضلّي بدك فيكِ تفلّي. زعلت بوقتها وما حللتها. أنّه أنت هيدا أنت»). وتُبدي ندمها على تسرّعها في السابق وعلى «قطعها أوصال المودّة». من هنا تنتقل للتعبير بشكلٍ صريح عن رغبتها باستكمال ما انقطع، بعد أن ألمحت إليه سابقاً، متجاهلةً تغيّر الزمن والالتزامات والمجتمع («بترجع ع راسي رغم العيال والناس. أنتَ الأساسي وبحبك بالأساس»)، قبل أن تختم بالتأكيد على حبّها («بحبك أنت، ملّا أنت. بحبّك أنتَ»).
يطرح زياد الرحباني في الأغنية تصوّراً خاصاً عن الحب شديد الرومانسية. الحب في الأغنية هو حالة مستمرّة، لا يؤثّر عليها الزمن، ولا المجتمع وعاداته، ولا الغياب والانقطاع، وهو الأهم هنا. يتساءل الرحباني عن معنى الغياب وتأثيره، وعمّا يخلّفه الانقطاع عن الحبيب في النفس.
صدرت «كيفك أنتَ؟» في ألبوم يحمل الاسم نفسه في العام 1991، أي فور انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. في تلك الفترة لم تكن الهواتف المحمولة قد ظهرت بعد، وبطبيعة الحال لم يكن هناك وجود لوسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها. هذا عدا عن أنّ الحرب غيّرت أساساً عمليّة التواصل بين الأفراد وبين المتحابين، (يُصوّر برهان علوية في فيلمه «بيروت اللقاء» هذا التغيّر).
وبالتالي يمكن القول إنّ الأغنية كانت في تلك المرحلة شديدة الواقعية ومعبّرة عن الكثير من «قصص الحب». لكن ماذا عن اليوم؟
ربّما بالنسبة للكثير من أبناء جيلنا ستبدو هذه الأغنية خارج الزمن، وربّما ستصير غير مفهومة بالنسبة للأجيال التالية، إذ يمكن لأيّ شخصٍ أن يردّ ببساطة على سؤال فيروز «كيفك قال عم يقولوا صار عندك ولاد. أنا والله كنت مفكرتك برات البلاد»، بالطلب منها البحث على «فايسبوك» عن حبيبها السابق لتعرف أخباره وأحواله وعدد أولاده واسم زوجته ومكان سكنه ووظيفته.
على سذاجة ردٍّ كهذا وبساطته، إلّا أنّه حقيقي جدّاً. أغلبية ساحقة من أبناء جيلنا متصلة بالشبكة، على «فايسبوك» أو «انستغرام»، أو «واتساب»، أو «تويتر»، وغيرها من التطبيقات. وهو اتصال سيصير الفكاك منه أصعب كثيراً مع تقدّم السنين، خاصةً مع طموحات مؤسّس «فايسبوك» مارك زوكربرغ بربط سكان الكوكب بأسره بالشبكة، وهو قد بدأ بالعمل على ذلك فعلاً عبر مشروع إيصال الانترنت للمناطق النائية باستخدام طائرات من دون طيار. وأيضاً عبر سعيه لربط كلّ تفاصيل حياتنا اليومية بـ «فايسبوك»، إذ سيصير بإمكاننا طلب تاكسي، شراء الحاجيات، تحويل الأموال، طلب الطعام، إلخ، من خلاله، ممّا يعني أنّه مع مرور الزمن سيصير من الصعب جدّاً على الأقلية التي اختارت عدم الارتباط بالشبكة مواصلة حياتها اليومية بشكلٍ طبيعي.
بالعودة إلى الأغنية وربطاً بما سبق، يصير من الطبيعي السؤال عن معنى كلمة الغياب في العام 2016 مقارنة بالعام 1991، وعمّا سيصير معناها في العام 2116 مقارنةً بالعام 2016، مثلاً. هل ستصير كلمة الغياب مرتبطة بالموت فقط؟
هناك تساؤل آخر مثير للاهتمام أيضاً: هل ينقل المؤلّفون الموسيقيون والشعراء والروائيون والمخرجون السينمائيون وغيرهم من الفنانين هذا الحضور الطاغي لشبكات التواصل على حياتنا في أعمالهم، في سياقٍ مختلفٍ عن رفضها واعتبارها تشويهاً للنفس البشرية؟ سيكون من الممتع مراقبة دخول هذه الشبكات في الأعمال الفنيّة على أنّها جزء طبيعي من حياتنا اليومية، أغنية عن قصة حبّ على «واتساب»، أو فيلمٌ بوليسي عن ملاحقة شبكات الدعارة على «فايسبوك»، أو رواية تدور أحداثها بين «تويتر» و «إنستغرام»، مَن يدري؟
http://shabab.assafir.com/Article/16809
السفير