يحلّ علينا شهر رمضان شهرا مباركا كريما معطاء، شهر الزاد الروحي والشحن الإيماني، والمراجعة والتقييم الذاتي لكل مؤمن ومؤمنة، شهر المُشاركة والتكافل وإقالة عثرات الأفراد ومساندة ودعم مؤسسات المجتمع الأهلي. لكن سنة بعد أخرى نبتعد في شهر رمضان عن البساطة والتقوى، والعبادة والتدبُّر، ووصل الأرحام ومساعدة المحتاجين، ونغرق في السطحيات والشكليات، ونتوجّه بتصرفاتـنا عكس الهدف المنشود والحكمة المتوخاة. أصبح شهر رمضان مرادفاً للاستهلاك الفاحش والهدر. أصبح شهر الإسراف من جميع الوجوه، شهر المآكل والأطايب، شهر مآدب التبرعات للجمعيات، شهر "فوازير رمضان" و"تسالي رمضان" وبرامج التلفزة التي تلهي عن القيام بالعبادة، وأضحى شهر "السهرات الرمضانية" وما يرافقها من تصرفات وانغماس في الملذّات وحضور الإستعراضات الفنّية وتدخين الأركيلة، ومناسبة لإطلاق المفرقعات والألعاب النارية التي تقضّ المضاجع وتروّع الأطفال والعجائز والمرضى. وللأسف، شهر انتشار الشحاذين في الطرقات. والأنكى من هذا كله أنه أصبح شهراً للغلاء واستغلال الناس ورفع الأسعار، فتحاول العائلات الفقيرة والميسورة تأمين تموينها المتواضع قبل ارتفاع الأسعار، ومع ذلك تُنكب برمي المأكولات في مستوعب النفايات بعد أن فسدت لانعدام الكهرباء والتبريد! وفي هذا الشهر تتـنافس الجمعيات الدينية والإجتماعية على طبع الشعارات على الجدران وعلى رفع الأعلام وتعليق اللافتات في الشوارع وعلى الأبنية، وذلك بدون أي إذن أو ترخيص، ويرافق ذلك أحياناً مشادات وعراك بسبب إدّعاء طرف الأحقية في هذا الموقع أو ذاك، أو الزعم بوجود تابعين ومُريدين له في الحي! ليس هذا فحسب، بل تمر الأيام وقد تـُركت اللافتات واللوحات تحت رحمة الشمس والريح والمطر والوحل كي تتكفل بنزعها وإزالتها! وكم تحول شعار رصين إلى مهزلة بسبب تمزّق جزء من اليافطة التي تحمل هذا الشعار. إن عتبنا لشديد على الجمعيات الدينية على وجه الخصوص لأنها تحمل مسؤولية المثال الصالح والتطبيق العملي للعقيدة الدينية، ونلفت النظر إلى أن بعض اللافتات تحتوي على آيات قرآنية وأحاديث نبوية لا يجوز تعريضها لما ذكر أعلاه، وندعوهم إلى إزالة اليافطات واللوحات فور انـتهاء شهر رمضان، وبنفس الحميّة والحماس اللتين رافقتا وضعها. ومما يدعو إلى الأسف أن بعض "الإفطارات الرمضانية" أصبحت تُستخدم كمنابر لتوجيه الرسائل السياسيّة، ورفع وتيرة المُناكفات، والتراشق وتصعيد السجالات، بدلاً من أن تكون مناسبة للحضّ على التسامح والتراحم وصلة الرحم والتكافل الإجتماعي، واستذكار صلة الشهر بعظمة نزول القرآن الكريم ومغزاه ومعانيه. ولا شئ يُماثل مشاعر الألم التي انتابتني في شهر رمضان المنصرم حين سألتني حفيدتي ببراءة الأطفال: "جدّو .. الطبّال (المسحراتي) سُنّي أو شيعي!". والأنكى أنه الشهر الذي تٌعلن فيه المرجعيات الدينية اللبنانية رؤية هلال شهر رمضان في تواريخ متباينة، ضمن هذه الرقعة الصغيرة من الأرض! مما يدعو إلى التساؤل إن كانت مظاهر الوحدة الإسلامية في ممارسة العبادات قد تكون أجدى أحياناً من التأويلات والتفسيرات؟ كما نتساءل أيضاً تُرى على ذمّة من نصوم ونفطر... فاتقوا الله فينا يا أولي الأمر! باختصار لقد صبغنا شهر رمضان بمختلف المظاهر الخادعة، وحوّلناه إلى شهر "خيمة رمضان"، أو بالأحرى "خيبة" رمضان! فلنتوقف عن الإساءة إلى هذا الشهر الفضيل، شهر الهدى، شهر نزول القرآن الكريم، خشية أن يُصبغ هذا الشهر إلى الأبد بهذا المظهر السيء، وعسى أن يعيده الله علينا وقد حلّت مدافع تحرير القدس الشريف مكان مدفع رمضان. وأخيراً، وفي شهر رمضان المبارك، أتمنى على جميع القادة من سياسيين ورجال دين أن يصوموا تماماً عن الكلام والتصريحات، وأن يستغرقوا في التأمل والنقد الذاتي، وأن يتضرعوا الى ربّ العالمين ليغفر لهم خطاياهم، خصوصاً أنهم يدرون ماذا يفعلون! (عبد الفتاح خطاب - اللواء)