لشهر رمضان سحرٌ خاص، جو يطغى على كل شيء، هدوء ينساب إلى أكثر الأماكن ضجيجاً، تفرغ الساحات والمطاعم. في المساء، يُخلقون من جديد، يعود الدم للجريان في عروقهم، تستفيق بلدات الإقليم حتى الصباح، ينقلب الليل نهاراً والعكس.
لا يحتاج شهر رمضان في هذه البلدات ليفرض نفسه، على الرغم من أن الكثير من عاداته بدأت تندثر، وما تبقى منها يحتاج إلى دعم كبير كي لا يزول.
غاب المسحراتي عن حارات وأحياء البلدات في إقليم التفاح، غابت معه الطبلة وقضيب الخيزران، وغابت تلك الأشعار والأناشيد الدافئة، وبقي صداها يتردّد في ذاكرة جيل الآباء والأمهات، «يا نايم وحّد الدايم»، و «قوموا على سحوركم إجا رمضان يزوركم». صدى يحمل معه الكثير من الحنين إلى ذكريات ذاك الزمان، تقول سهى من كفرفيلا: «لم نكن ننتظر المسحراتي لإيقاظنا، كنا نسابقه إلى بهو المنزل، أنا وإخوتي، فأجد أبا أحمد، ينادي باسم والدي، يا مؤمن وحّد الله...».
في معظم البلدات كان المسحراتي يقوم بعمله تقرباً إلى الله، أو كما يقولون «لوجه الله»، ولكن في بعض البلدات كان ينتظر نهار العيد، ليجول على البيوت، معايداً أهلها، ومتقبلاً هدية رمزية منهم، كلٌ حسب قدرته المالية. بالنسبة لسناء (30 عاماً) لم يشكّل المسحراتي على أيامها حاجة ضرورية، خصوصاً مع وجود الهاتف والتلفزيون في كل بيت، «إلاّ أنّ دعمنا له، هو دعم لهذه العادة الرمضانية الجميلة التي نأسف لغيابها».
لم تستطع مكبرات الصوت التي تصدح بالأدعية والآيات من مآذن المساجد والتي تثير بلبلة كبيرة لما تسببه من إزعاج للأطفال والمسنين، أن تمحو حنوّ صوت المسحراتي وارتجالاته الشعرية التي كانت تزيد فترة السحور أنساً وهدوءاً.
غاب المسحراتي عن الشوارع، لكن زينة رمضان لا تزال أمراً واجباً في العديد من البلدات. منها اللمبات الملونة في الساحات الكبيرة، ومنها الفوانيس واللافتات المرحّبة بقدوم الشهر الفضيل. «لكن هذه الزينة تبقى متواضعة مقارنة بزينة مدينتي النبطية وصيدا»، يقول حسن، متمنياً أن يعود مدفع الإفطار يعلن للناس وقت الغروب، منتقداً المطاعم السياحية في جباع وعين بوسوار، لعدم الاكتراث لهذا الرمز الجميل، قائلاً: «الديكور الرمضاني لا يكتمل من دون مدفع الإفطار».
كثيرة هي الأطباق التي تفترش موائدنا في شهر الخير، إلاّ أن الأطباق الغربية بدأت تغلب بكثرة على الأطباق اللبنانية، خصوصاً الأكلات القديمة، التي لم يتبق منها إلا صحن الفتوش، مع التعديلات المستحدثة عليه.
ومن الأكلات التي قل الاعتماد عليها «كبة الحيلة» التي تتكون من العجين والجريش واللوبيا وصلصة البندورة، إضافة إلى «كبة العدس»، و «بقلة اللوبيا»، و «اللوبيا الحمرا»، و «المفروكة» وتتكون من الملفوف المحشو بالبرغل والخضار. وتضيف «أن أكثر ما نفتقده اليوم هو حلوى رمضانية تسمّى «الرشطا»، وتتكون من حبال العجين مع الحليب والسكر». لم تكن المشروبات الرمضانية كما هي اليوم، تفننٌ كثيرٌ في أنواع العصائر ونكهاتها وأصنافها. «عرق السوس» و «الخرنوب» غابا غيابا بارزا، ولا يزال قمر الدين والجلاب يحافظان على حضورهما.
تنشط في الشهر الفضيل بعد وقت الإفطار الزيارات بين الأهالي والجيران، تنطلق من قناعة دينية لدى الناس بأهمية صلة الأرحام، كما تُفتح مقامات الأولياء الصالحين أبوابها أمام المؤمنين لقراءة القرآن والأدعية، وحتى النساء في هذا الشهر يرتدن المساجد في وقت يغبن عنه كل أيام السنة. تتميّز بلدة جباع عن سواها بإقامة عصرونية قرآنية في ساحة البلدة، بحضور حشد متنوّع من أبنائها صغاراً وكباراً، ويشاركون بختمية قرآنية جماعياً.
من المهم أن تُرصد هذه العادات أكثر، ليس لأنها ترتبط بفريضة دينية يجمع عليها الكثير من سكان المنطقة، بل لأنها تشكل مخزوناً جميلاً ودافئاً في ذاكرة الناس، يعودون معه إلى أيام كانت الإنسانية هي المعيار الأول لفعل الخير، فدائماً اقترن شهر رمضان بإطعام الفقير وكسوة المسكين وإعطاء المحتاج، ودائماً كان المحطّ الأبرز لإعادة وصل الصلات الاجتماعية المقطوعة وإعادة الألفة والمحبة إلى القلوب.
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-06-10 على الصفحة رقم 4 – محليّات
مايا ياغي - السفير
http://assafir.com/Article/8/498284