أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

يوم برفقة ثورة... اسمها جميلة بوحيرد

الإثنين 26 كانون الثاني , 2009 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 6,078 زائر

يوم برفقة ثورة... اسمها جميلة بوحيرد
عن مناضلين استشهدوا لمناضلتين عرفتا معنى الشهادة وخصوصاً المقاومة.
في يومهما الجنوبي الثاني حملت المناضلتان العربيتان جميلة بو حيرد وليلى خالد، عبق الشــهادة والشـهداء وطافتــا به في أرجاء الجنوب تنشــران أريج النــضال من بنـت جبيل الى مارون الراس، وختــاما بقانا صاحبة المجزرتين.
إرث يعود إلى ٥٣ عاماً، لم يحملها على التخلي عن صمتها. لطالما سئلت المناضلة جميلة بوحيرد عن الثورة الجزائرية. سئلت عن سنوات الحبس لدى المستعمر الفرنسي، سئلت عن صناعة المتفجرات في منزلها في حي القصبة في العاصمة الجزائرية. هي التزمت الصمت ولم تحد عنه. غياب ٤٧ عاماً عن الصحافة، كسرته غزة أمس الأول.
أرادت جميلة بوحيرد، من أرض الجنوب اللبناني أن توجه لغزة تحية. وكانت ترافقها المناضلة الفلسطينية ليلى خالد. في معتقل الخيام، وعلى طول الشريط الفاصل عن فلسطين، عند بوابة فاطمة كان لها جولة. هناك رددت جملة تقولها دوما: »ليت لي جناحان يحملانني إلى غزة، إلى فلسطين«. عدا ذلك، آثرت الصمت خلال الجولة. كانت منهمكة في كفكفة دموعها التي لم تهدأ. من دموعها استطاعت »السفير« أن تسرق من جميلة، التي يشي اسمها بداخلها كما بخارجها، جواباً.
قالت إنها »تبكي أمتنا«. فهل هي الأمة الشعبية المقاومة، أم جزء كبير من الأمة الحاكمة المذعِنة؟ أجابت »ألا تستحق كل هذه التضحيات في الجزائر ثم فلسطين فلبنان وأخيراً غزة.. دموعنا«. فهل تأسف هذه السيدة السبعينية الأنيقة برقتها، لما حدث للأمة من هوان؟ تجيب »آه طبعاً«، وكانت دموعها لا تزال تنهمر.. بصمت.
وهل تتمنى لو أن جميلة ـ ثورة السلاح، ولدت في هذا الزمن، تجيب »أنا ما زلت ثائرة. لأن على المرأة العربية أن تحمل في يدها اليمنى فأساً لتبني، وتذرف دمعة في عينها (علّها) تهز رجال الأمة«.
تهرّبت كثيراً.. وتحدّثت قليلاً. في حيلتها، قالت حيناً: »إنها لم تفعل شيئاً يستحق التكريم«، وقالت حيناً آخر »إنها لا تريد ان تأخذ زمنها وزمن غيرها«، وقالت أحياناً كثيرة »إنها لا تتكلّم العربية.. فهل تريدونني أن أتحدث بلغة المستعمر الذي حرمنا في طفولتنا من تعلّم لغتنا«. لم تقل أمس الأول ما قالته في حديث »خاطف« سابق انها »كانت آنذاك مشغولة بالنضال من أجل أن يتعلّم أبنائي العربية«، كما لم تقل إن المحتل الفرنسي كان يمارس على الجزائريين ما سمي بـ»حركة التجهيل المتعمدة«، التي أدّت الى وصول نسبة الأميين في الجزائر في العام ١٩٤٨ إلى أكثر من ٩٠ في المئة.
كثيرون سمعوا أن بذور النضال لدى جميلة بوحيرد وُلدت في طابور المدرسة، عندما كان أترابها يرددون »فرنسا أمنا«. هي كانت تقول »الجزائر أمنا«. أغضبت الناظر، أنزل بها عقاباً شديداً من دون أن يفلح.
ثمة من يروي أن البداية »أقدم من ذلك بكثير«. والد جميلة »ثائر« في الأصل. وأمها »أنّبتها«، عندما سمعتها تحفظ عن كتاب التاريخ عبارة تقول »أسلافنا هم الغال (الشعب الذي يتحدر منه الفرنسيون)«. صوّبت الوالدة معلومات الطفلة: »الجزائر وطنك، والعروبة هويتك، وأفريقيا جنتك التي يجب أن تعود كاملة لأصحابها الافريقيين«.
الفضل في مجيء جميلة بوحيرد إلى لبنان يعود إلى نورا بركان. »هي ابنة شهيد«، هكذا عرّفت عنها ابنتها سارة. سيدة جزائرية متزوجة من لبناني وتقيم في بلده. وهي صديقة جميلة. أما الزيارة فكانت، برمتها، برعاية زوجة رئيس مجلس النواب رنده بري.
اللحظة الأكثر تأثيراً في رحلة أمس الأول الجنوبية، كانت في معتقل الخيام. هناك، قالت جميلة بوحيرد »أشكر الله أني زرت هذه الأماكن لأنها أفضل من القصور«. لم تكن تلك العبارة أبلغ ما قالته. فقرب ما يسمى في الخيام بـ»القن«، وهو صندوق حديدي ارتفاعه لا يزيد عن المتر، فيما لا يتجاوز عمقه نصف المتر، وكان يستخدم كسجن انفرادي، يتموضع فيه السجين على شكل جنين فيما الجلادون يدقون الأبواب الحديدية من الخارج في مزيد من الغل. قرب باب القن، قالت جميلة بوحيرد »أنا كنت محظوظة أكثر. زنزانتي كانت أطول شوية«. لم يكن »المستعمر الفرنسي أكثر رحمة، لكن الوسائل تختلف... (على سبيل المثال) تركوا (المستعمرون) ابن عمي، وهو على مشارف الموت، فريسة للكلاب«.
بكل براءة قبّلت مقاوماً، كان قد اعتقل في الخيام. قالوا لها إنه حاج، أجابت بمزيد من البراءة »ما يجوز، إحنا في الجزائر نقبّل المناضلين«.
بعدها التقت رئيس مجلس النواب نبيه بري. في دارته اعتذرت لعدم إتقانها اللغة العربية. قالت إنها »مذهولة وفخورة لأنها تقف على أرض البطولة والعروبة«، التي اختارتها منبراً لتقول لأهل فلسطين وغزة »قاوموا وتحملوا لاإنسانية العدو، لأننا، قبل ٥٥ عاماً، استطعنا أن نذهل العالم.. عندما كنا نقوم بواجبنا«.
أحرجوها عندما استدعوها إلى منصة، في قاعة الرادار في المصيلح، لتلقي كلمة. استحت وهي ترفض، ثم أذعنت. وقالت باقتضاب »أنتم اولادي وأخوتي ما دمت حية«. أما الرئيس نبيه بري فخاطبها قائلاً: »انها احدى المرات النادرة ان يتشرف الجنوب بك وانت ايضا تتشرفين به، وهذه أول مرة أشعر ان هذا الجسر من التواصل بين الجزائر والجنوب ليس مجرد كلام«. وتابع ضاحكاً: »طردت خمسة أيام من المدرسة، من أجلك، لانني كنت متضامنا معك«.
ليلى خالد، في هذه الأثناء، كانت ثورة تنبض، قالت عند بوابة فاطمة إنها »عائدة إلى حيفا. لأن من حرر الجنوب قادر على تحرير كل فلسطين«.
[[[
أما أنا.. فربما كان يتعين عليّ انتظارها في لبنان، بعدما اخفقت في لقائها في الجزائر. انتقمتُ لإخفاقي هناك، زرتُ زنزانتها في سجن برباروس، على مشارف العاصمة الجزائرية.. حيث لم تفلح ثلاث سنوات من التعذيب، من انتزاع ثورتها. وحيث قالت لجلاديها: »أعرف أنكم ستحكمون علي بالإعدام. لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم لكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة«، لينقلوها لاحقاً إلى سجن ريمس، حيث قضت ثلاث سنوات في زنزانة حملت الرقم .٩٠
انتقمتُ وزرت مسقط رأسها في حي القصبة الفقير الغني بإرثه وأبنائه. هناك قبل ٧٤ عاماً وُلدت جميلة بوحيرد.. لتلتحق في شبابها، بعد عامين من بدء الثورة الجزائية (١٩٥٤ ـ ١٩٦٥) بصفوف الفدائيين. هناك كانت تملأ حقيبتها المدرسية بمتفجرات صُنعت في منزلها، الذي كان يضجّ باشقّاء سبعة والكثير من »الأحباء المناضلين«.
في أزقة القصبة، كان هناك عشرات »الجندرمة« (جنود الاحتلال الفرنسي). هي كانت تدرّب قدميها على حركات تعلّمتها في صفوف الرقص الكلاسيكي.. ظهرها مثقل بحقيبة يُفترض أنها مدرسـية. كانـت تلك حيـلتها في تهريب... الثورة.

Script executed in 0.19289016723633