أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

كاسترو.. الديكتاتور الجميل

الإثنين 28 تشرين الثاني , 2016 05:37 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,388 زائر

كاسترو.. الديكتاتور الجميل

مئة ساعة مع فيدل كاسترو، روت سيرة قائد وشعب بصوتين اثنين. حدث ذلك منذ عشرة أعوام. لقاء رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك» آنذاك ايناسيو رامونيه بالزعيم الكوبي، انتهت بكتاب من700 صفحة. كاسترو وايناسيو، صوتان يقولان ويسجلان المسيرة منذ بداياتها بتحدياتها وجسامتها: الانتصارات الصعبة، في لحظة انفجار كونية كان فيها العالم على وشك حرب نووية، بين العملاقين الأميركي والسوفياتي، بسبب كوبا، احدى أصغر الدول التي قالت لا لأميركا، وهي على مرمى قذيفة من حدودها.
ماذا قال كاسترو؟ أكتفي بالنهاية فقط. الثورة التي انتصرت حرَّرت كوبا. يستحيل أن تعود مستعمرة أميركية.
يستحق كاسترو أن يُفرد له مكان شاسع في التاريخ. هذا حق اكتسبه من دون توصية من أحد ومن دون اقتحام من فوق. هو تاريخ بطريقة مختلفة. يكفيه أنه ظل صامداً في فم التنين، لأكثر من ستين عاماً. تعب التنين ولم يتراجع كاسترو. ظلت كوبا عاصية على أميركا. قاومت غزوها مراراً. قاومت حصارها نصف قرن. قاومت عصابات «الكوبيين المتأمركين» المدعومين من أجهزة المخابرات ومسيَّرة منها. يقال، لا أحد يستطيع إحصاء محاولات الاغتيال التي نجا منها. هي 600 محاولة. بل هي ألف. بل قيل أيضاً، إنها ما يقارب 2600 محاولة... أبرز ما انجزه في أزمة الصواريخ السوفياتية، أنه منع الولايات المتحدة من غزو كوبا، مقابل تفكيك الصواريخ السوفياتية وإعادتها من حيث أتت. الجزيرة الصغيرة كانت كبيرة جداً. هذا ما صنعه كاسترو والرفاق.
خاب كنيدي. صفّق خروتشوف. فيما مضى كاسترو ورفاقه لبناء شعب قادر أن يصد أي عدوان. «كل السلاح لكل الشعب». نظرة واحدة إلى الخريطة تبرز صمود كوبا وسط المخاطر.
بعض سيرته موقّع ببنادق الثورة، بالخطب المطوَّلة، بصداقة تشي غيفارا. هذا الذي مارس الثورة مثل كتابة الشعر. أجمل القصائد هي غيفارا. «الحالم بعالم حقيقي لإنسان يستحق أن يتطلع إلى الشمس ويرمق الدنيا بملء قلبه».
لم يكن موسكوبيًّا، برغم يساريته وشيوعيته. لا يشبهه أحد من قادة العالم. إنه مزمن وحقيقي ودائم... جاء النضال من وجع المظلومين وقهر المضطهدين وجوع الكادحين وكرامة المهانين. لم يولد من كتاب أو من عقيدة. هذه جاءت إبان النضال وبعده. من عائلة ميسورة الحال كان. صفق الباب خلفه ومضى لمواجهة البؤس، بثورة البؤساء. انتمى إلى شعب يعمل ولا يأكل، يتعب ولا يرتاح، بقاؤه حيَّا في مثل ظروف الاستعباد، عقوبة. الموت أكثر اشفاقاً على أناس عراة متروكين طعاماً للمرض والإهمال والتمييز. باتيستا، كان يجمع الثروة. مع حفنة من مصاصي الدماء، ويوزعها على قراصنة السياسة في واشنطن. ينعتهم الكاتب السويسري جان زيغلر بالمتوحشين أو المفترسين.
انتمى كاسترو لغير طبقته. قال: زمن الاستغلال والاستعباد انتهى. امتشق السلاح ليسقط الطاغوت المحلي المرتبط بالطاغوت العالمي. كان العالم مظلماً جداً. ثورة كاسترو وغيفارا أضاءت القارة اللاتينية. انتقلت العدوى إلى الحديقة الخلفية للبيت الأبيض. خافت أنظمة. اندفعت واشنطن بأنيابها للدفاع عن حصتها الكبرى في القارة اللاتينية اليتيمة. أفضل خيارات أميركا، عسكر وإقطاع وأصحاب أموال. هؤلاء هم الحكام في «المدن الأميركية الفاضلة» التي تدر لبناً وعسلاً وطاعة.
في كتاب رامونيه سؤال ختامي: «البعض يتساءل عما إذا كان المسار الثوري في كوبا مهدّداً بالاندثار».
جواب كاسترو مقلق: «لقد طرحت هذا السؤال على نفسي مراراً. اسمع جوابي (يا رامونيه) الاميركيون لا يستطيعون تدمير المسار الثوري في كوبا، لأن شعبنا كله سيحمل السلاح. وبرغم كل أخطائنا، المستوى الثقافي للشعب الكوبي هو بحيث لا يترك أبداً أي فسحة ليعود هذا البلد مستعمرة أميركية. ولكن، هل تستطيع هذه الثورة (الكوبية) ان تدمر ذاتها؟ نعم. نحن نستطيع ان ندمرها. وهذا الخطأ سيكون خطأنا. هذا ما سيحصل، إذا لم نصحح اخطاءنا، وإذا لم نوقف المثالب التي هي بحجم كبير».
هذا القائد الفذ، كان ديكتاتوراً جميلاً. الديكتاتوريون الآخرون في غاية البشاعة. يحاكمون كوبا عبر مقارنتها بدول تقدمت اجتماعياً وعلمياً وتقنياً. صحيح ذلك. ولكنه يخفي آفات ما تعرضت له مجتمعات متقدمة جداً وممكننة حديثاً ومطابقة للمعايير الدولية الرسمية. ليس صحيحاً أبداً أن تقوم المقارنة على ذلك. العولمة طردت من طريقها شرائح ازدادت فقراً. الثروات المليارية تزداد، وعدد الفقراء والمعوزين بالمليارات أيضاً. هذا تقدم متوحش. الإنسان فيه أخيراً...
في كوبا، المسألة تختلف، برغم فداحة الافتقار إلى الحرية. يبدو كأن الحرية والعدالة الاجتماعية لا تلتقيان. فحيث تسود الحرية، يستفيد الرأسمال منها. ماذا تفيد العبد حريته إذا كان جائعاً؟ سيضطر إلى بيع حريته والقبول بقيود العمل المجحفة والقاتلة.
اليوم، يتغير العالم عن جد. هناك عصر مضى. عصر من العظماء الخالدين: جف العالم عندما مات مانديلا. تغيّرت فيتنام بعد هو شي منه. أظلمت اميركا اللاتينية بعد استشهاد غيفارا. تيتمت شعوب بعد موت الأم تيريزا. انحذفت أمة بعد موت عبد الناصر. ضاعت قضية بعد عرفات وحبش. كل هؤلاء، حركهم الإحساس بالظلم. كلهم سمعوا: «إرفع رأسك يا أخي». فارتفع المارد وأطاح استعماراً واستبداداً من سيحكم العالم غداً؟
لا أسماء علم. شركات عملاقة بحواسيب نقالة. مصارف عابرة للقارات. دولار يقتات من دم العملات المحلية. مؤسسات ذات إمرة دولية... مداميك السلطة غداً، أرقام بلا أسماء ولا شعوب. انه عالم في غاية البشاعة.
في مثل هذا اليوم، يطيب لنا ان نتذكر الاحلام ومهم جداً أن نستعيدها. قد لا يكون غيفارا الأخير. قد لا يكون كاسترو قد مضى. قد لا يكون ناصر قد انتهى... العالم اليوم ماضٍ إلى مصائر جديدة بشعة. ترامب في أميركا. اليمين المتطرف في كل مكان، الحروب الدينية عندنا.
يستحيل أن يستمر ذلك. علينا أن نعقد صفقة مع الأحلام.
فهي يقظة الغد.

نصري الصايغ 

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-11-28 على الصفحة رقم 13 – قضايا وآراء

http://assafir.com/Article/217/518605

 

 

Script executed in 0.16869211196899