إن شهداءنا الذين مهما قلنا عنهم فلن نوفيهم حقهم في الإكرام والتبجيل، وهم الذين جادوا بأغلى ما يستطيع أن يجود به الإنسان، وحين نبارك الشهادة والشهداء علينا أن نؤمن بأن الوصول إلى الحقوق يتطلب التضحيات، وأن طريقنا لتحقيق أهدافنا لن يكلل إلا بتضحيات شعبنا وفداء شهدائنا، لأن من يطلب الموت توهب له الحياة، وهكذا فعل شهداؤنا حين أقبلوا على الشهادة بنفسٍ رضيّة لنعيش أحراراً كراماً، ونصل إلى انسانية الحياة..!
وكما قال الشهيد أمين سعد "الأخضر العربي" في كتاب مذكراته:
الحرية لها ثمن ضخم، الدم، او الارواح ،او العذاب المرير، ولا يشعر بقيمتها الا السجين الذي يعيش بين القيود في ظلام دامس ولا نصل الى الحرية إلاَ بعد مسير طويل في طريق شاق وعر، نخوض فيه غمارالارهاب والظلم والعبودية، وقد نفقدأغلى، مالدينا وقد نفقدالحياة كلها قبل الوصول. الشعب العربي يسير في هذه الطريق وقد فقد الغالي والضحايا بحيث قدم قوافل عديدة من الشهداء على مر الزمن وتاريخ امتنا مكتوب بدماء هؤلاء الاحرار الذين استشهدوا في سبيل أن تحيا الامة العربية في وحدة شاملة وحرية كاملة ولا يزال شعبنا سائر في طريقه وسيبقى حتى النصر الكامل.
فالشهادة خلود، والشهيد خالدٌ أبداً، وإن وطننا وأمتنا لن يكونا منيعين إلاّ بالشهادة، ولن نصون حقوقنا بغير الشهادة، ولن نردع العدوان ونهزم الغزاة بغير الشهادة، ولن نشعر بالكرامة ونسعد بهذا الشعور إلا بقدر ما نشعر أنَ الشهادة جزءٌ لا ينفصل من كياننا النفسي والبدني...
واليوم تأتي ذكرى إستشهاده، ذكرى غيفارا الجنوب القائد أمين موسى سعد "الشهيد البعثي الأخضر العربي "
هو الذي وصفه مطران حوران وجبل العرب باسيل سماحة بأنه "مشعل حق ونبراس يقين" وناداه "يا صديقي الأخضر العربي يا مثال الربيع سيعود بالدم النقي الى عروق أمتنا فتزهر حقولها وتثمر أشجارها بثمار العطاء والاستشهاد".
كان أمين أميناً مربياً في مدارس بيروت، وقائداً في حزب البعث العربي الإشتراكي وطلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)هو أول من سقط شهيداً في مواجهة العدو الصهيوني في العرقوب جنوب لبنان بتاريخ 3ـ12ـ1969وبسقوطه إرتفع مشعل الثورة والنضال، ومن دماءه الطاهرة التي روت تراب الجنوب انبتت شقائق النعمان التي لفح اريجها أصلاب الرجال الشرفاء في لبنان من أقصاه إلى أقصاه وأنجبت عشرات الآلاف من المقاومين وقدمت على مذبح الشهادة آلاف الشهداء حيث تحول التراب في لبنان وفلسطين وسوريا إلى حقول شاسعة من الأقحوان الأحمر وحولت التراب إلى تراب مقدس كأضرحة الأنبياء والأولياء والصالحين.
ايها الأخضر العربي نهجك باقِ ويحارب العالم كله كي يبقى مشعل العروبة الذي رفعته شامخا" خالدا في وجه الطغاة والغزاة والفجرة والكفرة وتتار العصر..
لا تزال شقيقتك نجمة سعد مهدي (الخضرا) تتذكر لحظة اتوا بجثمانك على صهوة فرس، فكانت مع مجموعة من الفتيات يتولين العناية بالجرحى في القواعد الفدائية الامامية في العرقوب. من هناك انتقل الجثمان الى الشام ثم بدأت مرحلة التشييع الثانية نحو بيروت (برج حمود) ومن ثم نحو الجنوب (بنت جبيل) حيث استقر رأسه على وسادة ابدية من دون ان يغيب مشهد الوداع الذي استمر ثلاثة ايام بين الشام وبنت جبيل وما تخلله من نزول عفوي لمئات آلاف المواطنين الى الشوارع لوداع "غيفارا الجنوب"؛ الشهيد الجنوبي الاول.
في يوم من الايام، خاطت اختك الكبرى التي ربتك بعد ان رحلت والدتك وتركتك طفلا، فستانا لاحدى جاراتها ورفضت اخذ اجرتها فأهدتها عصفوراً في قفص خشبي، ولم يمض النهار الا وكان الطائر طليقاً... وبّختك شقيقتك آمنة فكان ردَك محتداً: "تصوّري لو كنت أنا او انت مكانه؟".
انضم أمين الى الزاحفين نحو أحزمة البؤس في العاصمة سعيا للدراسة والعمل والسياسة فإذا به يختار حزب البعث العربي الاشتراكي طريقا ونهجا في انشداد واضح نحو فلسطين وتحريرها بالسلاح. مارس التدريس وشارك مع آخرين في تأسيس المعهد العربي في بيروت وقاد التنظيمات الكشفية فيه وانخرط في العمل الحزبي ولا سيما في محطة العام 1958 الى جانب الوطنيين المعارضين لحلف بغداد والغاضبين على نزول الاسطول السادس الاميركي في مياه لبنان.
حقق امين سعد ارقاما قياسية في دخول "حبس الرمل" في بيروت ايام "الشعبة الثانية" بقيادة سامي الخطيب، وطالما رفض ان يكلف الحزب محاميا للدفاع عنه "لكي لا نخسرهم مالا يمكن صرفه في اماكن اخرى اكثر اهمية". وكاد ذلك يكلفه حياته في اكثر من مرة نظرا لبشاعة الممارسات التي كان يتعرض لها (نفخ جلده، سحب اظافره، الضرب على صنوفه ووسائله) حتى انه عندما كان يقرر اطلاق سراحه يفرض عليه البقاء موقوفا لايام حتى زوال آثار التعذيب تفاديا لاي دعوى قضائية ترفع ضد من تولوا تعذيبه.
في اوائل الستينيات افتقده رفاقه مراراً، وتبين لاحقا انه كان يعمل سرا في مقاومة الاحتلال داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة. ومع انطلاق الثورة الفلسطينية وغداة النكبة الثانية عام 1967 التحق بالعمل الفدائي الفلسطيني وخضع في العام 1968 لدورات تدريبية مكثفة في الزبداني استمرت ستة اشهر، وعاد بعدها ليتسلم مهام نائب رئيس منظمة الصاعقة في منطقة العرقوب.
وفي يوم الثالث من كانون الاول 1969 (شهر رمضان)، تبلغ ان قوة اسرائيلية تتقدم في بيادر شبعا، فخرج عند الخامسة فجرا ومعه مجموعة من خمسة او ستة مقاتلين للتأكد ميدانيا، وتبين ان الاسرائيليين نصبوا كمينا فحصل اشتباك عنيف استمر طيلة ست ساعات، واستخدمت خلاله الاسلحة المباشرة والقذائف المدفعية ورشاشات المروحيات. وفي تمام الحادية عشرة ظهرا توقف قلب امين بعد اصابته مباشرة بشظية قنبلة "هاون".
ميزة شهادة امين موسى سعد هي صدقها، وكان على يقين "بأن ثورة البعث ستنتصر وفلسطين ستتحرر... كان يعتقد "ان نموذج ارنستو تشي غيفارا وجميلة بو حيرد يمكن ان يتكرر في كل ساحات النضال".
وهو الذي قال وصدق عام ١٩٦٩ قبل استشهاده بساعات. أمين سعد "الاخضر العربي"
نحن لسنا جيل التحرير ولكن نحن باستشهادنا نضع العلامات على الطريق لجيل أو جيلين يأتون من بعدنا.. انني متأكد من أنه سيأتي جيل في المستقبل فيحرر أرضنا من الصهيونية والرجعية ويعيد لهذه الامة كرامتها التي سلبتها الايدي الملوثة والمأثومة..
المجد والخلود لشهدائنا أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر..
وكفانا فخراً أيها الأخضر العربي وكفاني أنك خالي ...والسلام...
زينب سعد