عرفت مدينة بنت جبيل ظاهرة السوق منذ القرن السابع عشر ميلادي، حين كانت الممر والملتقى لقوافل التجار المتنقلة بين ما يعرف الآن بالشام وفلسطين ولبنان. وسوق حاضرة جبل عامل من الأسواق القديمة جداً في المنطقة، حيث يؤكد المؤرخون على وجوده «قبل الأمر الذي اصدره رستم باشا في منتصف تموز عام 1880، والذي قضى بفتح أسواق في بعض القرى والبلدات اللبنانية، وفي أوقات معينة، لتسهيل اعمال الرعايا».
وكان السوق يقام قديمـاً في المحلــة الــتي تعــرف بـ«الساحة القديمة»، حيث كانت تتواجد معظم المحلات التجارية الأساسية والمهمة في البلدة، وباعة الجملة والمفرق على حد سواء. ونقل سنة 1919 إلى المنطقة التي كان موجوداً فيها حتى تموز 2006 أي منطقة السرايا، قبل ان يتم تدميره بشكل كلي تقريباً خلال العدوان الاخير من قبل الطائرات الاسرئيلية. بعد العدوان يتحول السوق الشهير إلى أطلال تختزن كل ما سجلته دكاكينه من ذكريات وحكايا.
وكان السوق يحتل مساحة مهمة تتراوح بين 20 و30 دونماً، وكانت تقوم بالقرب منه تسع خانات تستقبل عدداً مهماً من الأشخاص ولهم منامة خاصة، وأعداد وافرة من الحيوانات.
يتحدث المؤرخون عن حركة بيع وشراء كانت ناشطة جداً في السوق قبل سنة 1948 الا انها خفت بعد تلك الفترة. وكان يقصد سوق بنت جبيل قبل عام 1948 كبار تجار الحبوب والمواشي والسلع المتفرقة، والفواكه والخضار والفخار... وغير ذلك. وبعد نكبة فلسطين عام 1948 اصيب السوق بنكسة قوية، فقد حُرم من أهم مصدر اساسي لرفده وإعطائه جزءاً كبيراً من أهميته، وهي السلع الآتية من فلسطين. واستعاد السوق، بعد النكبة، بعضاً من أهميته ولفترة بسيطة بسبب حلول عدد كبير من الفلسطينيين النازحين إلى بنت جبيل وجوارها في المنطقة. بعد ذلك بدأ السوق يتراجع تدريجياً، ففي عام 1956 بنيت محلات تجارية على جوانب السوق وهي ملك للبلدية. وبين سنتي 1975 و1976 كانت فترة ذهبية لسوق بنت جبيل، حيث عاد معظم ابناء بنت جبيل من بيروت إلى المدينة اثر اندلاع الحرب الأهلية، وعادت للسوق اهميته الكبيرة، حيث بلغ سكان بنت جبيل يومها حوالى 20 ألف نسمة، وانتقل إلى المدينة أكثر من 200 معمل للأحذية، وكان تجار الشمال والبقاع وبيروت يأتون إلى بنت جبيل لشراء إنتاجها، وشراء الأحذية. وفي آذار 1976 قصف الإسرائيليون وعملاؤهم سوق الخميس، وبدأ العد العكسي مجدداً للسوق، حيث نزح معظم الأهالي إلى بيروت. وبقي الوضع على ما هو عليه حتى التحرير في ايار 2000 عندما استعاد السوق الكثير من عافيته تدريجياً.
هذا في التاريخ، اما اليوم، فحركة تجارية مضطربة، قوة شرائية ضعيفة، سوق تجاري مهدم وتجار غرّبتهم الحرب عن سوقهم... هي باختصار حال الأسواق في بنت جبيل التي لم تستعد الحركة التجارية فيها عافيتها بعد رغم النشاط العمراني الذي تشهده المنطقة، وبدء ظهور المعالم الاولى للسوق التجاري الذي يعاد إعماره وسط البلدة بتمويل قطري.
اما عن الأسباب، فهي تتنوع بين سوء الوضع الاقتصادي، والاوضاع الامنية في الجنوب والمنطقة، خاصة العدوان الذي شهدته غزة والخوف من انتقال الحرب إلى الجنوب، كل ذلك اثر على الرغبة في الإنفاق، كما ان الغياب المكاني لسوق بنت جبيل التاريخي كان له الأثر الأبرز على ضمور حركة البيع والشراء في سوق كان يعتبر من اكبر اسواق جبل عامل وأعرقها، ويمكن ان تكون كل تلك الاسباب مجتمعة ايضاً.
«اصبح من الواضح ان اختفاء سوق بنت جبيل عن الخارطة، وهو يعتبر الشريان الاساسي لمنطقة بنت جبيل، قد يكون احد اهم الاسباب الاقتصادية المتردية في المدينة»، يشير محمد بزي، متابعاً «خصوصاً ان السوق يعتبر مقصداً مهماً لأهالي بنت جبيل والجوار، ولأن تدميره في حرب تموز 2006 جعل تجاره يتشتتون في أماكن مختلفة بالمدينة»، لافتا الى ان الخوف من المستقبل دفع المواطنين إلى الحرص على ابقاء اموال نقدية كاحتياط بين أياديهم، بحيث لم تعد حركة التسوق لدى المواطنين سهلة او مرغوبة كما كانت عليه قبل الحرب.
اما الحاجة ام فضل من بلدة يارون، وهي زبونة دائمة في اسواق بنت جبيل، فتشير الى ان «التسوق في بنت جبيل لم يعد سهلا كما كان، ففي السابق كان السوق يجمع كل التجار ونستطيع ان نؤمن جميع اغراضنا بكل سهولة، اما اليوم فنحتاج لأكثر من ساعتين لقصد الباعة والمحلات وكل واحد منهم اصبح بـ«ديري». وتأمل أم فضل أن لا تطول عملية اعادة اعمار السوق حتى تستعيد بنت جبيل عافيتها الاقتصادية التي افتقدتها بعد حرب تموز. ويشير حسين شامي صاحب محل لبيع الاحذية كان قد اسسه قبل حوالى الشهرين، الى «ان السوق يمكن ان يستعيد عافيته بعد الانتهاء من اعادة الاعمار وعودة كافة التجار اليه، ويضيف «ان الحركة ضعُفت نتيجة امتناع الزبائن عن سوق بنت جبيل وتوجههم الى اسواق اخرى اكثر نشاطاً لا سيما في صور والشهابية، خاصة ان المدينة بلا سوق تجاري، ومن جانب آخر ربما تأثر الناس بالأوضاع المادية الضعيفة وانعكاسها على حركة الشراء». ويأمل شامي ان تتحسن الاوضاع خلال الصيف القادم مع قدوم المغتربين الذين تصيبهم هذه الايام عدوى سوء الأحوال الاقتصادية حتى في بلدان الاغتراب مما ينعكس بشكل كبير على حجم التحويلات المالية. وعن ربط الاوضاع الاقتصادية بما جرى في غزة، يقول شامي، «ان الحرب التي شهدتها غزة كانت لها نتائجها السلبية على الاقتصاد في بنت جبيل، فمنذ اطلاق الصواريخ الاخيرة من جنوب لبنان لاحظنا حالاً من التريث لدى الكثير من المواطنين للإتيان بأي خطوة اقتصادية إلا شراء ما هو ضروري، حتى أن البعض تريث في اكمال اعمار منزله او اكتفى بالاعمال الضرورية فقط.
الا انه يبقى هناك بعض الامل لدى التاجر عرفــات محــسن الذي اقـدم على استئجار محله الثاني في اول ســوق بــنت جبيل بعد انهاء عملية اعادة اعـماره، ونتيــجة باعه الطويل في هذه الحرفة، فانه يرى «انها ازمة اقتـصادية عابرة تشهـدها بنت جبيل في كل سنة من هذه الفترة وأن الصيف المقبل يبشر بالخير». (السفير)