هي الكلماتُ تتناثرُ، لتحكيَ حكاية َ بلادي.
وعلى الأسطر ِ تتكاثرُ، لتجعلَ الأسطورة َ روايتي.
تلك هي أبجدية ِ الثائر ِ، صاِنع ِ ُلغة ِ كلامي.
و ُكتبت ْ بدم ِ الأحرار ِ، لتروي ثقافة َ حياة ِ الأبطال ِ.
منْ جبل ِ عامل ٍ الأشم, ومن جنوبِ الجنوب ِ. منْ رحم ِ الأرض ِ التي تحتضنُ الشهداءَ، وتنبتُ المقاومة ِ، شتلا ً وشجرﴽ وحجرﴽ وإنسانا ً. منَ التربةِ الزكيةِ التى ُمزِجتْ بدَم ِ الشهداءِ، ورَفضتْ الذ ﱢلة َ وعبثية َ الظلم ِ، وَظلامَ اﻹحتلال ِ. هي الأرضُ الفاتنة ُ بمشار ِفها، تستهوي الرواة َ والشعراءَ. هي الأزقة ُ والذاكرة ُ، وهي الأساسُ لكلﱢ حدثٍ وفي كل ِ مكان ِ.
مهما بعثرَ ْتنا ِهجرة ُ الأيامَ، وأرهقت ﺃجسادَ َنا ُكلﱡ التحدياتِ، وطالتْ ِبنا َ غربة ُ المسافاتِ، وَسرَقتْ من اعيننا براءة َ وبساطة َ الحيّ والضيعةِ والقريةِ والجبل ِ والوادي ِ وكلﱠ الأحياءِ، ستبقينَ يا بنتَ جبيلٍ رمزﴽ لكل ِ جيل ٍ ُمقاوم ٍ وُمماِنع ٍ وسنبقى لكِ ولمجد ِ تاريخك ِ اوفياءِ.
الحكاية ُ طويلة ٌ وأِليمة ٌ، معَ كلﱢ جيل ٍ ومعَ كلﱢ الكلماتِ. نغيبُ عنكِ لكيْ نرَتزِقَ ُلقمة َ العيش ِ, بكرامةِ النفس ِ وكدح ِ الكادحينَ. ونعودُ ﺇليكِ، بعضنا زاِئرا ً او مقيما ً، والبعضُ آتٍ ﺇلىَ مثواهِ الأخير ِ.
ما هذا الرابط ُ بيننا؟
هل هوَ سلكيﱡ موصول؟
او هي جاذبية ٌ من هوى ووجدان ِ؟
ما هذا الذي ُيهدىءُ دقاتِ القلب ِ, وفورا ً يصعدها بنفس ِ الأوان ِ؟
ما هيى هذه الحسرة ُ التي لا ُتفرﱠجُ , ﺇلا بمزيدٍ منَ البكاءِ؟
في كل ِ زمن ٍ كنتِ وما زلتِ، ُأما ً لأبنا ِئكِ في غربةِ الزمان ِ والمكان. والآنَ هنيئا لكِ، لقد اصبحتِ على ألسنةِ الشعوبِ، اسطورة ً. وفي ذهن ِ كلﱢ أسير ٍ، مقاومة ً و ُممانعة ً. ومن مرج ِ العيون ِ تنزُفينَ دُموعا ً سخية ً إجلالا ً وﺇحتراما ً لتضحيةِ كل ِ الشهداءِ. ومع العواصم ِ اصبحتِ ليس عاصمة ً لوطن ٍ وحسبْ، بل عاصمة َ المقاومةِ في وجهِ كل ِ انواع ِ العدوان ِ. ومع ربيع ِ العمر ِ وزغردة ِ كل ِ العرسان ِ, اصبحتِ عروسا ً لتحرير ِ الأرض ِ واﻹنسان ِ. ومن هذا المقلع ِ التاريخي ِ المقاوم ِ المجيد ِ، المليءِ بالعطاءِ والصمودِ والممانعةِ. ننحني أما َمكِ وَنقفُ وقفة َ صمتٍ وإجلال ٍ لمن ضحىﱠ ومن زالَ يضحيﱢ ِ. كم نحنُ ِصغارﴽ كأفرادٍ، ﺃمامَ هذا المقلع ِ الحيوي ِ الذي يسمو بالعطاءِ. وكم نحنُ اقوياءَ عندما نوﹼحدُ الصفوفَ ونتوحدُ تحتَ رايةِ الأولياءِ.
ما ِسرك ِ أيتها الناِحتة ُ المبدِعة ُ بصناعةِ الأبطال ِ؟ لقد غطيتِ على صنينَ وكل ِ الجبال ِ. وجبلتِ تربتكِ المباركة َ الزكية َ، فتجسدَ منها الرجالُ الرجال ِ. ونحتِ من الصخر ِ قلوبا ً ودحرتِ بها أشرسَ عدوان ِ. ومنْ سقط َ شهيدﴽ، قد أعادَ الأمانة َ التي ُنحتَ منها يوما ً من الأيام ِ. ومنْ َبقيَ على العهدِ أمينا ً، يجسد ُ لنا صمامَ الأمان ِ. وِمن خلال ِ اﻹنتصاراتِ، فرزت ِ المجتمعَ ألى مجتمعين ِ. ﺇما كربلائيﱢ الموقفِ، وﺇما مع سلاطين ِ الزمان ِ.
الناسُ في مجتمع ِ السلاطين ِ ينحنونَ ويركعونَ ويقدِسونَ وَيعبدونَ ﺇلهَ المال ِ، وﺇلهَ السلطةِ، وﺇلهَ النفوذِ، وكلَ سلبياتَ اﻹلاهياتِ. وفي السر ِ يجلسُ السلاطين مع أعداءِ اﻹنجيل والقرآن ِ. فيتواطئوا ويخططوا ويحرضوا في العلن ِ وفي اﻹعلام ِ. فيصبحوا وجها ً آخرَ لمثل ِ ذاك العدوان ِ. يستخدموا سياسة َ المال ِ ليكدِسوا نفوذ َهم وَيخلقوا على الأرض ِ واقعا ً يتناقضُ مع ِ الحقيقةِ. يتعاملوا معَ كل ِ المحرماتِ بأِسم ِ الحضارةِ، والتعايش ِ، و بأِسم الشطارة ِ، والحنكة ِ، والحكمة ِ، و بأِسم ِ كل ِ المفرداتِ. ﺇذا كنتَ من أزلامهم، رشوكَ بالمال ِ. وﺇذا ُكنتَ مفكرﴽ حرﴽ مستقلا ً ممانعا ً، حاربوكَ بالذاتِ. ومن أجل مصالحهم الدنيوية يحاولون المقاطعة َ واﻹذلال ِ واﻹهانة ِ والفرز ِ والتكبرّ ِ على الناس ِ. أو اﻹستثناءَ والتهجيرَ والتجويعَ وممارسة َ كل ِ أنواع ِ اﻹرهابِ على أولائك الذينَ رفضوا السلاطين ِ والتسلطِ. كيف أبدأ شكوايَ يا ُامَ الشهداءِ؟ يا عروسَ العواصم ِ للمجدِ واﻹنتصاراتِ. هل َقرُبَ زمنُ الظهور ِ (عجلَ الله فرجه)؟ أم هذا وجهٌ آخرٌ لسلاطين ِ الزمان ِ؟
أما المجتمع ُ اﻠكربلائيﱡ الأولُ, وهو الأولُ في كل ِ زمان ٍ ومكان ِ. يتجسدُ بمواقفِ الأبرار ِ دفاعا ً عن ُأمةٍ :
ُسلبت منها الكرامة ُ, وهي كريمة ٌ شريفة ٌ.
وُسلبت منها الحرية ُ, وهي حرة ٌ مستقلة ٌ.
وُسلبت منها الشجاعة ُ, وهي ُشجاعة ٌ قوية ٌ.
وكادت أن ُتسلبَ منها رسالة ُ السماءِ, وهي مؤمنة ٌ ربانية ٌ.
لقد جسدتْ كربلاءُ وما زالتْ، مواقفَ نبيلة ً حكيمة ، وأ ُسسا ً اجتماعية ً عادلة ً وسليمة ً، وفلسفة َ الشجاعةِ فى زمن ِ الترهيبِ واﻹرهابِ، وقمة َ العطاءِ والتضحياتِ، وألمَ الفاجعةِ والصدمةِ. فكانت هذه الأ ُطروحة ُ فاصلا ً أساسيا ً ومحطة ً ومواقفَ غيرتْ مجرى التاريخ ِ. وعادَ اﻹسلامُ إلى بوصلتهِ الحقيقيةِ الطبيعيةِ بعيدا ً عن اﻹنحرافِ الدنيويﱢ، والقراءةِ الماديةِ السطحيةِ، المتطرفةِ الأ ُصوليةِ، والتكفيريةِ للقرآن ِ الكريم ِ وللحديثِ الشريفِ. هذه القراءة ُ العنصرية ُ الضيقة ُ، غيرُ قابلةٍ لمعطياتِ الحياةِ والتعايش ِ معا ً. وفي هذا الزمن ِ، يذهبُ مروﱢجو ومقيدو هذهِ الأفكار ِ ويجلسون مع أعداء ِ الأ ُمةِ واﻹسلام ِ. ويأتونَ بأفكار ٍ غريبةٍ عجيبةٍ تتناقضُ كليا ً مع فلسفتنا واقتصادِنا وُتراِثنا وديننا، ومع اتجاهِ مصيرِنا. إن موقفَ كربلاءَ واضحٌ جدا ً لدى القاصي والداني. حينما تجدُ يزيدﴽ (في أي مكان وأي زمان) تحتاجُ حسينا ً لتكميل المصير ِ والمسار ِ. وتحتاجُ أيضا ً ألىَ "هيهاتِ" الحسينْ، وفلسفةِ، ومدرسةِ، وشجاعةِ، وتضحيةِ، وشهادةِ، ودم ِ، ومبايعةَِ الحسينُ. أيها القارﺉُ لهذا الكلام ِ, ها هي فلسفتنا لثقافةِ الحياةِ.
جبلُ عاملَ, هوَ هوَ. قلعة ُ الممانعةِ عبرَ الأجيال ِ. وسدٌ عال ٍ في وجهِ كل طامع ٍ بتربةِ هذا المكان ِ. أرضُ المقاومُ الأول ِ الذي حررَ الحجرَ والبشرَ من تخلفِ الجاهليةِ, وظلام ِ العبوديةِ, وإنحرافِ الرسالاتِ السماويةِ. ومن خلال ِ أ ُطروحتهِ اﻹثنيّ عشريةِ التي ترتكزُ على قاعدةِ رفض ِ الذلةِ الفرديةِ والجماعيةِ، ورفض ِ العبوديةِ الماديةِ والسياسيةِ, وفرض ِ المقاومةِ شرعا ً وحقا ً وشرطا ً لتحرير ِ الأرض ِ وكل ِ اﻹنسان ِ. هذه الأ ُطروحةِ "الأبوذريةِ" التى ِ وَرَِثها عن ِ أعظم ِ رسول ٍ وأعظم ِ ﺇمام ٍ, دامتْ لنا عبرَ السنين ِ مع كل ِ تغيراتِ الزمان ِ. وها نحنُ ابناءُ هذهِ الرسالةِ الحسينيةِ, نبايعها من جيل ٍ إلى جيل ٍ. وَنرويها بالحكايةِ أسطورة ً, وبالشجاعةِ بطولة ً, وبالمنهج ِ أ ُطروحة ً, وباﻹستشهادِ بداية ً. وأخيرﴽ, نرويها وُنعزِزُها وُنجدِدُها بأرواح ِ ودم ِِ الشهداء ِ وبمجالس ِ العزاء ِ ُنحيها ونبكيها.
كربلاء جسدَتْ حقﱠ المعارضةِ والممانعةِ لسلطان ٍ طاغ ِ، وجائر ٍ، وفاشل ٍ. وكما علمنا التاريخُ من خلال ِ قراءتهِ الدؤوبةِ الروحيةِ والعلميةِ, أنّ ُمعظمَ سلاطينَ الزمان ِ َفشلوا بتحقيق ِ العدالةِ والأمان ِ واﻹزدهار ِ لمجتمعاتهم. ومن َثمﱠ، َيئسَ الشعبُ وثارَ وأنقلبَ وأطاحَ بالسلاطين ِ وزُمر ِتهم. ونحنُ اليومَ، وفي بدايةِ الألفيةِ الثالثةِ لتاريخنا المعاصر ِ والقديم ِ، ما زلنا نعاني من شياطين ِ وسلاطين ِ الزمان ِ. وما زلنا بحاجةٍ ماسةٍ ﺇلى الحسين ِ وثورةِ الحسين ِ وثقافةِ الحسين ِ عن ِ الحياةِ.
بنتُ جبيل ٍ, هي هي. أرضُ الآباء ِ والأجدادِ وجزءٌ لا يتجزأ ُ من قلبِ جبل ِ عامل ٍ الأبي. وتشكلُ بنتُ جبيل ٍ البوابة َ الجنوبية َ لهذا الجبل ِ الصامدِ. كانتْ وما زالتْ, ِمحورﴽ أساسيا ً عبرَ التاريخ ِ من خلال ِ الجغرافيةِ، واﻹقتصادِ، والسياسةِ ما بين الشام ِ وبيروتَ وفلسطينَ وغزةَ وشرق ِ الأردن وِمصرَ. لقد أيقظ َ اﻹحتلالُ الصهيونيﱡ لفلسطينَ ومن ثمﱠ للبنانَ، هذهِ الماردة َ الرائدة َ، الساهرة َ على بوابةِ عامل ٍ عبرَ الأجيال ِ. هذهِ اللبوةُ التي تو ِلدُ ِسباعَ الرجال ِ وتجسدُ من خلال ِ مواقفهمْ الحسينيةِ، المقاومة َ البطلة َ وثقافة َ الحياةِ. هذهِ الثقافة ُ التي بلورها اﻹمامُ الكربلائيﱡ وروى جذورَها بدماِئهِ الزكيةِ. ومن ذلكَ الزمان ِ ﺇلى الآن ِ، ُنحي ذكرى نضاِلهِ وتضحياتهِ بمجالس ِ عزاء ٍ. ومن َثمَ، جعلها الغفاريﱡ أ ُطروحة ً حية ً عندما بشرَ جبلَ عامل ٍ بولايةِ اﻹمام ِِ. واﻵن لقد أصرﱠ القدرُ والتاريخُ والسماءُ معا ً بأن تنتصرَ هذهِ المقاومة ُ, اﻹنتصار ِ الألهيّ.
بنتُ جبيل ٍ هي حالة ٌ ﺇسلامية ٌ عربية ٌ قومية ٌ وطنية ٌ بالذاتِ. لقد صاغتْ التاريخَ وشاركتْ في كتابتهِ، وصناعتهِ، وشاركتْ في كل ِ محاورهِ منَ الأساس ِ. ومن خلال ِ تقا ُطعها الجغرافيﱢ والزمنى ِ، ُفرِضَ عليها ما لا تحملهُ الجبالُ، من تضحياتٍ وإحتلال ٍ وقتل ٍ وسجن ٍ وخطف ٍ وتهجير ٍ وتدمير ٍ وتجويع ٍ وﺇهمال ٍ من ِقبل ِ اﻹحتلال ِ. وعانتْ الأمرﹼين ِ. فردتَ الصاعَ صاعين ِ من خلال ِ مخزونها الكربلائي التاريخي. وتصدت للعدوان ِ. وأبتْ أن َتشرَبَ من كأس ِ الذل ِِ واﻹحتلال ِ. فعادتْ وُعدنا ﺇلى الحياة ِ. وأتتَ الأنتصاراتُ. الأولُ في سنةِ ألفين ِ التحرير ِ, والثاني تموزَ العدوان ِ. هنيئا ً لكِ يا بنتُ جبيل ٍ. لقد قلبتِ السحرَ على الساحر ِ, وسقيتِ اعداءَكِ كأس ِ الذل ِ والعار ِ. وجعلتهم أمواتً في عالم ِ الأحياء ِ. هنيئا ً بنتُ جبيل ٍ...منكِ ولكِ ثقافةَ ُ الحياةِ.
(محمد طلال حكمت بزي)