لم يكن بحاجة الى الكثير من تلك الحياة ليكون سعيداً، بل ربما كان أسعد ممن يملكون الكثير، لم يكن يبصر بعينيه لكنه أبصر بقلبه، ولم يسمع ضجيج الحياة بأذنيه بل سمع صوت القوة داخله، ولم تسلبه الحياة العزيمة، بل زادتها، هو مصطفى دبوق، ابن بلدة تبنين الجنوبية ، الرجل الصلب الذي اتخذ من الضعف قوة، الممزوج بالطهارة والحب، ذو الوجه البشوش.
كان رواية لها عبرة، تظهر على غلافها ابتسامة تفاؤل، وحفنة من الحب منثورة على الجوانب، انتهت تلك الرواية الجميلة، وطوت الحياة صفحاتها، وغيّبها الموت عن رفوف محبيها، هكذا رحل مصطفى، ورحلت رفيقة أوقاته "ابتسامته"، ولم يطول الزيارة في هذه الدنيا كثيراً، ورحل في ريعان شبابه، فهي 29 عاماً، لكنه أمضاها برضى وقناعة.
وفي تفاصيل حياة مصطفى، وحسب ما أفادنا أحد أقاربه الى موقعنا بنت جبيل.اورغ، انه تولت جدته تربيته منذ صغره، بعد أن فقد بصره في عمر الثلاث السنوات بصورة مفاجئة، ثم فقد سمعه بعمر السبع سنوات، ورغم كل ذلك كان يغلبه طبع الضحك والفكاهة، فلا وجهه يعرف عبوساً، ولم يقطّب حاجبيه قط، بل نثر المرح أينما حل، وما من شخص عرفه و لم يحبه.
.
لم ينسَ مصطفى يوماً حب الله، وكان يمتلك من الذكاء ما يكفي ليتعلم الصلاة التي لم يستثنِ منها فرضاً واحداً، وقراءة القرآن وحفظ الأدعية والزيارات، من خلال لمس الأحرف التي تعلمها بمساعدة شقيقته، فضلاً عن أنه مارس حياته بشكل طبيعي، ويعمل في مؤسسة لتركيب القطع الكهربائية، وكان يقوم بتركيت القطع التي تحتاج الى دقة عالية، لدرجة الملل ويتقنها بمهارة رهيبة أسرع من أي شخص طبيعي، كما ورد الى موقع بنت جبيل.اورغ،
وبعد كل هذا، استقبل مصطفى الزائر الثقيل، وهو المرض، الذي أنهكه ونال منه، فأصابه تشمع في الكبد، وأضعف جسده، وطالما كرربعض الناس، ربما جاء المرض والموت ليريحه من تلك الحياة الصعبة والمريرة، لكن لا، من وجهة نظر مصطفى لم تكن كذلك، هذا ما كان يقوله من تعابير وجهه، فهم من كانوا تعساء وليس هو، وكان جدير بالحياة لأنه يحبها، ومن يحب الحياة يستحق أن يعيشها، ولكن قدر الله وقدرة الله وقضاؤه، تفوق كل شيء وإرادته ومشيئته فوق كل شيء، لربما أراد أن يضعه بمكان أجمل، بين الملائكة التي تشبهه.
أخذ مصطفى من الحياة ما هو ايجابي وما هو سلبي، فهي حرمته نعمة البصر والسمع، لكنها زوته بالارادة والعزيمة، فبات ذاك الانسان الطاهر مثال لكل من يتذمر، ولكل بائس.
ريم بيضون/ بنت جبيل.اورغ