على طول الطريق الممتدة من بلدة كفركلا، الحدودية، إلى بلدة دبّين، في قضاء مرجعيون، يقع سهل مرجعيون، أو “سهل الخيام”، السهل الداخلي الوحيد في الجنوب اللبناني، الذي كان، قبل سنوات طويلة، مورد رزق معظم أبناء المنطقة، لكنه اليوم يبدو مهجوراً ومختلفاً عن طبيعته. لا أثر للمزارعين فيه، باستثناء الأراضي القريبة من “نبع الدردارة”، المورد الوحيد لري المزروعات. هناك، فضّل أبو خالد (74 سنة)، المزارع السابق (من الجنسية السورية) أن يبني خيمة صغيرة لبيع البطيخ والشمام “البقاعي”. يقول: قررت الإستغناء عن الزراعة، بسبب عدم وجود المياه وتدني الأسعار. لقد خسرت في العام الماضي سبعة ملايين ليرة. وما استطعت إنتاجه لم أتمكن من بيعه.
قريباً من مستعمرة المطلّة “الإسرائيلية”، يجلس محمود (47 سنة) تحت مظلّة صغيرة، تقيه من حرارة الشمس الحارقة. عيناه شاخصتان، بحسرة، على السهل الواسع، الذي بدأت المباني السكنية تجتاحه “ظلماً وعدواناً”، كما يقول. ويضيف: قرر أبناء الجنوب الإستغناء عن زراعة السهل وبناء المنازل داخله، بشكل مخالف للقانون. ويلفت إلى أن “الإستمرار في البناء، سوف يحوّل السهل إلى منطقة سكنية بالكامل”. أكثر من ثلاثين منزل حتى الأن، شيّدت داخل أراضي السهل الكبير.
يقول علي عبدالله (الخيام): لقد سمحوا للأهالي بالبناء. ويغضّون أبصارهم عن المخالفات القانونية والأضرار الكبيرة، التي ستلحق بالأراضي الزراعية الوحيدة في المنطقة”. ويعتبر أن “هذا السهل هو الأكثر سوءاً، على ما يبدو، من حيث الإهتمام الرسمي. وهو المكان الأكثر قدرة، على إعادة سكان المنطقة إلى قراهم وبلداتهم، شبه المهجورة، إذا قرّرت الجهات المعنية إستثماره لمصلحة الأهالي والمزارعين”. يشكو عبدالله من لجوء بعض الأهالي، في المنطقة، إلى تحويل مياه الصرف الصحي إلى أراضي السهل، مما أدى إلى منع العديد من المزارعين من إستخدام الأراضي الملوّثة. أحد العاملين في مركز الارشاد الزراعي في المنطقة، يشير إلى أن “مياه الصرف الصحي، غير المكرّرة، تصبّ في بعض أراضي السهل، بسبب وجود معمل قديم ومعطّل لتكرير المياه المبتذلة.
ومن الممكن أن تكون هذه المياه الملوّثة، قد إتصلت بمياه الينابيع المغذية لنبع الدردارة”. تصل مساحة أراضي هذا السهل إلى حوالى 28 مليون متر مربع، “إذا أضفنا اليها حوالى مليوني متر مربع، من الأراضي المتصلة بالسهل في منطقة الوطى والسرداب”. واللاّفت، أن ” معظم هذه الأراضي تزرع بشكل غير منظّم ومن دون توجيه”. يقول المزارع محمد ونسة.
ويضيف: معظم أصحاب الأراضي غير مقيمين في المنطقة. يؤجرون أراضيهم للفقراء والغرباء؛ ولا تزيد أجرة الدونم الواحد على مئة ألف ليرة، فيما كل مزارع يزرع ما يحلو له. لذلك، تخضع الزراعة لتجارب المزارعين وأسلوب عيشهم. فالمزارعون السوريون لا يحصلون على خدمة إيصال مياه الري، فيفضلون زراعة الخضار التي لا تحتاج إلى المياه. أما اللبنانيون، فقد عادوا إلى زراعة السهل بالتبغ، كون تصريف إنتاجه مضموناً”، لذلك عمدت زينب نصرالله (40 سنة) إلى إستئجار 50 ألف متر مربع، لزراعتها بشتول التبغ. وهي، بحسب قولها، “تستعين بالعمال السوريين، لكنها إستطاعت أن تجني مالاً وفيراً”. يذكر أحمد عواضة (81 سنة) أن “أبناء المنطقة كانوا يزرعون السهل بالحبوب والخضار المختلفة، لكن الإحتلال أدى إلى تهجيرهم في العام 1970.
وبعد الإجتياح “الإسرائيلي” لبيروت، عاد العشرات منهم إلى الزراعة، لكنهم تركوها فيما بعد، بسبب إهمال الدولة وعدم مساعدتهم في تصريف الإنتاج. لذلك، لا يزيد عدد من مزارعي بلدة الخيام اليوم، على عدد أصابع اليد”. هذا ما يؤكده أحد الموظفين في وزارة الزراعة، الذي يبيّن أن “حفر بعض الآبار الأرتوازية أدى إلى جفاف بعض الينابيع، التي كان يعتمد عليها، بشكل كبير، في ريّ الأراضي الزراعية”. لذلك، لجأت بلدية الخيام إلى مدّ أنابيب لري نحو نصف أراضي السهل، من نبع الدردارة، أما النصف الآخر، فيبقى من دون ريّ. وفي السنوات الماضية، قصد السهل العديد من أبناء المناطق النائية الأخرى، سيما من البقاع وقرى وبلدات بنت جبيل ومرجعيون، “أدخلوا زراعات جديدة، تبدو أكثر جدوى، إذ تنتشر اليوم زراعات التبغ (نحو 500000 متر مربع) والأشجار المثمرة، من الزيتون واللوزيات والآفوكا والجوز (3500000متر مربع)، مقابل زراعات الخضار (1500000متر مربع) والحبوب (16000000متر مربع)، بينها القمح ( 10 ملايين متر مربع)”.
في حين أن 70 في المائة من أراضي السهل، لا تزال طرقاتها ترابية، تمنع المزارعين من الوصول اليها شتاءً. ولا توجد خنادق لتصريف المياه، فتغرق الأراضي بمياه الأمطار، ما يهدد المواسم الزراعية ويزيد من الأمراض الزراعية والفطرية. لذلك، يقول عواضة “على الدولة أن تحفر بركاً زراعية تجمع فيها مياه الشتاء، لري المزروعات صيفاً، إذ يخلو السهل من هذه البرك”. خصوصاً أن الأراضي الزراعية المجاورة والبادية للعيان، داخل فلسطين المحتلّة، تحيطها البرك من كلّ حدب وصوب. ويشدّد المزارعون على أن “المشكلة الأكبر تتعلق بعدم إمكانية تسويق الإنتاج، بأسعار مفيدة، لأن تجار الجملة يشترون المنتجات بأسعار متدنية ويحققون أرباحهم الكبيرة، بينما تبقى الكلفة الحقيقية على المزارع، الذي عليه أن يشتري كل المستلزمات لتحصيل إنتاج جيد”. لذلك، يطالب المزارعون “بتأمين برادات كبيرة تحفظ الخضار والفواكه، للتمكن من بيعها، لاحقاً، بأسعار مقبولة. وإنشاء سوق خاص بأبناء المنطقة، يقيهم من تحكم تجار الأسواق البعيدة بالأسعار”.
ويلفت المزارع أحمد كريم، إلى أن “دخول المتمولين الكبار، سوف يؤدي للقضاء على ما تبقى من المزارعين الفقراء. فقد عمد أحد رجال الأعمال، منذ سنتين، إلى إستئجار حوالى ألفي دونم، قرب نهر الوزاني. واستعان بمئات العمال العرب، المقيمين في خيم قرب النهر. وزرع الأرض بالبطيخ والشمام وباع الإنتاج بأسعار متدنية، ما أدى إلى توقف المزارعين الصغار عن زراعة هذا النوع من الفواكه”. ويذهب كريم إلى أن “المزارعين الصغار، لا يستفيدون من خدمات الجمعيات والمنظمات الدولية، لأن من يستفيد من هذه الخدمات هم أصحاب التعاونيات الزراعية المرخّصة، رغم أن أغلبها مسجل بأسماء وهمية، خدمة لبعض المنتفعين، الذين يحصلون على المبيدات والأسمدة والآليات الزراعية المختلفة، حيث يتم بيع بعضها في السوق السوداء. لذلك، بقيت زراعة التبغ والقمح هي الأكثر فائدة لصغار المزارعين، بسبب عدم حاجتها إلى المياه. وبسبب تأمين تصريف الإنتاج، بالنسبة للتبغ. وإمكانية صمود إنتاج القمح لسنوات، يمكن تصريفه خلالها”.
يرتفع سهل الخيام 450 متراً عن سطح البحر. يبلغ متوسط هطول الأمطار السنوي فيه 875 مليمترأً. ترويه ينابيع عدة، أهمها: نبع الدردارة، غربي الخيام، نبع عين القصير، نبع الخربة، في برج الملوك، نبع الميدان وينابيع أخرى صغيرة في بلدة كفركلا. تدنت نسبة النشاط الزراعي فيه إلى أكثر من 31 في المائة، بسبب الإحتلال والإعتداءات “الاسرائيلية” منذ العام 1967إلى حين التحرير في العام 2000. وقد عانت الزراعة في سهل مرجعيون من مشكلات متعددة، أبرزها: غلاء سعر الإسمدة، إنعدام فرص التمويل عموماً وفي الزراعة خصوصاً، إنتشار بعض الأمراض التي تصيب المزروعات، غلاء الأدوية وعدم توفرها في معظم الاحيان، إضافة إلى إنعدام الإرشاد الزراعي وضيق السوق الاستهلاكية والمنافسة.
(نورا علي غنوي - Greenarea)