الليطاني نهر الحياة والمياه الدافقة، نهر الخير والعطاء، نهر المواسم وفيض الغلال، قمحا بلون الشمس، فاكهةً نضرة وخُضارا نديَّة، يئنُّ نبعاً، ويتلوى وجعاً في مجراه كمجرى الدمع على وجه صباح اتشح بالحزن، يستغيث هادرا بصوتٍ شجيّ وشكوى وعتاب، وصراخ أبكى ما حوله، فذبل الزهر وتيبست عروق الشجر، وضمرت الجذور وجف نسغها، واصفر الأخضر معلناً الحداد.
ما زال الليطاني يعيش حالة طوارىء مؤجلة، فيما التلوث بات أشد وطأة، وتحول في بعض أجزائه “مزبلة” ومكبا لنفايات وحيوانات نافقة في مجراه، وأخرى على ضفتيه تحولت محارق متقدة، تنفث الديوكسين والفوران والملوثات الخطيرة، والحرق العشوائي للنفايات مستمر في الهواء الطلق، ولا من يتحرك ليوقف هذا الموت المجاني الذي يلاحق المواطنين، خصوصا في في مكب حرش الحريمة في البقاع، حيث الدخان يتصاعد منذ عصر أمس، موثقاً بعدسة مواطنين اكتووا بنار الحرمان والإهمال. ما لا يمكن التغاضي عنه، أن النهر الذي سقط الشهداء للذود عنه من أطماع عدو اندحر عن أرضنا، يقتله اليوم الفساد الاداري والسياسي، ويبدو جليا أن إنقاذه من براثن التلوث لن يتحقق مع يتاجرون فيه لمكاسب مادية وانتخابية، قد تحول، كما بحيرة القرعون، مناطق “ميتة” في مجراه بقاعا، وأصبح مصدر تهديد جدي للأمن الصحي، يستهدف ليس المواطنين الذين يعيشون بالقرب منه فحسب، وإنما من يتناولون خضارا تم ريها بمياه الصرف الصحي، أي أن ليس ثمة من هو في منأى عن مخاطر التلوث.
حرب: ينشر الموت والامراض في هذا السياق زود المواطن ابن بلدة المرج البقاعية عبد الناصر حرب greenarea.me بفيديو يظهر حجم تلوث النهر في منطقة حوش الحريمة، وقد بدا لون المياه مائلا إلى الأسود، أما الطامة الكبرى فتمثلت في وجود جيفة لكلب نافق رمي في النهر، وبموازاة النهر يوجد مكب كبير للنفايات، وقد بدا مشتعلا والدخان يتصاعد منه بكثافة. وبحسب حرب، فإن ” هذه المنطقة زراعية والنهر مليء بجيف حيوانات نافقة مصدرها بعض المزارع، بالاضافة الى مختلف الملوثات من ملوثات عضوية كالصرف صحي، ومخلفات المعامل والنفايات الصلبة التي سدت مجرى النهر”، وأشار إلى أن “فكل هذه الملوثات جعلته نهرا ينشر الموت والامراض”.
وقال حرب: “لم يقتصر الامر على النهر فحسب، لا بل كتب علينا ان نعيش على رائحة المكبات المشتعلة ليلا نهارا في بر الياس، حوش الحريمة وغيرها من المناطق المجاورة، وهذا الأمر اصبح فوق طاقتنا وقدرتنا على التحمل، فمعظم أهالي المنطقة يعانون أمراضا مختلفة نتيجة هذا التلوث”. جانبيه: كارثة… وجريمة ابن بلدة حوش الحريمة باسل جانبيه أكد لـ greenarea.me أن “المكب ما زال مشتعلا”، لافتا إلى أنها “ليست المرة الاولى ففي كل مرة يقوم مجهولون برمي النفايات وأشعالها”. وقال جانبيه: “إن ما نواجهه فاق حد الكارثة، لا بل هو جريمة، خصوصا وأن لا بلدية في حوش الحريمة بعد أن حلت، ولا معامل ومزارع في البلدة، ولكن رغم ذلك يعثر في النهر دائما على جيف حيوانات نافقة”، وأشار إلى أن “مرض السرطان منتشر في البلدة بشكل مخيف، والمقلق أن بعض الاراضي المزروعة تسقى من النهر مباشرة، علما بأن الأهالي قد اقدموا سابقا على رفع عريضة مكتوبة للقائمقام، واشتكوا فيها بعض الحالات خصوصا وان الروائح الكريهة تنبعث اكثر خلال وقت الري بهذه المياه، كما ان الاهالي نظموا تحركا واعتصاما وقطعوا الطرقات ولكن دون فائدة”. ولفت جانبيه إلى أن “المزروعات تروى من مياه النهر الملوثة”، منوها إلى أنه “رغم اعتراض الأهالي إلا أن أصجاب الأراضي غير مكترثين لما يتسببون به من مخاطر تهدد الصحة العامة”. د. قديح: تلويث الهواء الجوي والتربة وفي هذا السياق، ومن أجل الوقوف على حجم المخاطر المهددة للمواطنين في هذه المنطقة، كان لا بد من الحديث مع الخبير البيئي في مجال علوم الكيمياء والسموم، ومستشار greenarea.me الدكتور ناجي قديح، فجدد تأكيده أن “المكبات العشوائية تعتبر مصدرا رئيسيا لإنبعاث وإطلاق الديوكسين والفوران”، لافتا إلى أن “هذه الملوثات عالية السمية والخطورة على الصحة البشرية وعالية النشاط المسرطن، تحديداً”. وقال: “كل عمليات الحرق العشوائي، التي تتم في مكبات النفايات، العشوائية غير المراقبة وتلك المراقبة أيضاً، هي عمليات تتم خارج التحكم بأي من شروط الإحتراق ولا بتلك المتعلقة بتركيب النفايات المعرضة للإحتراق كما أن التهوئة الضرورية لعملية الإحتراق تتم عشوائياً، حسب الظروف الطبيعية المرافقة للعملية فتكون هذه التهوئة من سيئة إلى سيئة جداً، في الأجزاء العميقة للمكب العشوائي (إحتراق غير كامل)”.
وأضاف قديح: “حسب مستوى الرطوبة وسرعة الرياح يتم إنبعاث كميات كبيرة من الديوكسينات والفورانات، تؤدي إلى تلويث الهواء الجوي والتربة. ويمكن لها أن تلوث المياه وأن تتراكم في الرماد المتبقي عن عمليات الإحتراق. تصنّف في المرتبة الأولى، بين فئات هذه المجموعة، عمليات إحتراق المكبات العشوائية للنفايات، التي تستقبل نفايات تضم نفايات المنازل، المكاتب، المعامل، ورش العمل الصغيرة والمطاعم. وفي كثير من الحالات، تحتوي على تراكيز عالية من المواد الكربونية وبعض مكونات النفايات المصنفة خطرة، مثل البطاريات، الدهانات، المنتجات الكهربائية والإلكترونية والبلاستيكية، المكونات الكيميائية والصيدلانية والمعدنية”. ورأى أن “هذا ما يجعل من حرائق المكبات العشوائية، مصدراً عالي الخطورة على الصحة البشرية والبيئية، نظراً للكميات المعتبرة من الديوكسينات والفورانات المنبعثة منها، ملوثة الهواء الجوي والتربة. وبالتالي، مهددة كل الأوساط البيئية والسلاسل الغذائية بالتلوث الكبير، واضعة صحة عموم الناس في خطر التعرض الحقيقي لآثارها السمية والممْرِضة”.
(فاديا جمعة - Greenarea)