لكن بعض التدقيق، يكشف لزائر أجنبي أو لمقترب أو مراهقين في لبنان، بعض التفاعل الذي يساعد على فهم مَن يقف خلف هذه الفكرة أو هذه اللوحة أو هذه الوسيلة، أو هذا الشعار. إلا أن الأهمّ من ذلك، يبقى في طبيعة الذين قاموا بهذا العمل، وطبيعة المناخ الذي عملوا فيه، ونوع الحوافز الموجودة لديهم.
في جانب قوى 14 آذار، يواصل وليد جنبلاط لامبالاته إزاء هذا النوع من التواصل مع الجمهور، وبدل الدفاع عن رأيه المحقّ، على الأقل إزاء جمهوره، يضيف أسباباً تتعلق بالبيئة والتلوّث البصري، علماً بأنه لا يفعل الشيء نفسه إزاء معامل الإسمنت والمرافئ البحرية.
وإذ اكتشف حزب الله أن لا داعي لمجاراة الجنون اللبناني في لعبة الصور، فإنه لم ينجح في الهروب من الشعار العام. وبدلاً من أن يتصرّف بواقعية لا تقيّده في هذه الحالة، حاول إقناع الجمهور بتفاعله مع الحدث. لكن الذين قاموا بهذا العمل لم يشعروا بالحماسة التي تلاحقهم في أعمال مشابهة لمناسبات تخص المقاومة. حتى الشعار العام بدا بارداً لا يغيّر في المشهد شيئاً، ولا يضيف فكرة.
إلا أن المصيبة الكبرى تكمن في لعبة «المستقبل»، إذ تبيّن أن مَن يقف خلف الموجة الأولى من الإعلانات الزرقاء ذات الأحرف الكبيرة والشعارات «الولادية»، قد سبق أن عملوا في تسويق ألبان وأجبان. وبعد تلقّي ردود الفعل السلبية عمدوا إلى موجة جديدة فيها العظة المملّة التي جعلت الجمهور يكرّرها باستهزاء، قبل أن تنطلق الحملة الأخيرة التي تدخل فيها السماء بقوة. لكن ردود الفعل تبدو أيضاً عاجزة عن شرح حاجة التيار وجمهوره إلى «هوبرة» و«صراخ» لا يعكسان حقيقة الأمر، حتى اضطر أحد خبثاء فريق المعارضة إلى التعليق على شعار «ما بننسى والسما زرقا»، الذي رُفع في مناسبة 7 أيار، فقال: «نحن فعلناها كي لا تنسوا، وإلا فسنضطر إلى إعادتها بطريقة تبقى طويلاً في الذاكرة»...
إلى جانب المستقبل، أفاق القائمون على الحملة الإعلانية في حركة «أمل» على شعارات وصور وإشارات تخص «التعايش» الممل، بطريقة تعكس حضوراً متأخّراً للعبة اللبنانية على طريقة بيانات المراجع الروحية وخطابات الرؤساء والقيادات الرسمية. لكن من قام بهذه الحملة لم ينتبه إلى أنه ليس صائباً ربط المشروع باسم أو شخصية، لكن محاولة اللعب على كلمة «أمل» ظهرت على درجة عالية من الخفّة المهنيّة التي تدلّ على نقص حاد في الخبرة إزاء أعمال كهذه.
وبين الشعارات الهرمة التي تدلّ على عمر حزب الكتائب، واللعب على الكلمات، التي لا تطنّ في أذن ولا تصمد في عين مقفلة، جاءت حملة «القوات اللبنانية» تعكس تناقضاً بين حيوية موجودة لدى قواعد هذا الفريق، وقيادته السياسية المشرفة على الحملة، حتى بدا أن الشعارات التي تحوي مشاهد العنف هي الأقرب إلى الذاكرة الجمعية لهذا الفريق، أو أنها وسيلة لتحفيز جيل من المقاتلين المسرّحين، تماماً كما كان القصد من الوقوف على أطلال «القوات» في حفل إطلاق الماكينة الانتخابية. إلا أن الهاجس يعود فيفضحه جورج عدوان مثلاً، عندما يحتاج إلى لافتات كبيرة وصور عملاقة، لعلّ أبناء الشوف مثلاً يرونه حقيقة لا وهماً اخترعه وليد جنبلاط وتحالف 14 آذار، وهو الذي يرفق صوره بشعار «القوات» الذي لا يوفّر له البياض المجاور حاجته إلى شهادة براءة ذمّة.
إلى جانب الحملات ذات الطابع المحلي، كتلك المستخدمة في كسروان وجبيل وطرابلس وبعض مناطق البقاع، حيث تقول الصور إننا أمام معارك بلدية واختيارية، فإن المفارقة برزت هذه المرة من صيدا، حيث فوجئ الناس بهذه الحرارة والعفوية التي تشبه أبناء المدينة الذين يخشون على مدينتهم من أكبر عملية تزوير قد يقوم بها تيار «المستقبل»، الذي، للمرة الألف، لم يجد غير صور الرئيس الراحل رفيق الحريري لرفعها، عسى أن تحرّض الجمهور على التصويت.
ورغم أن كثيرين لن يعجبهم هذا الكلام، فإن حملة «التيار الوطني الحر» قد تكون الوحيدة التي تدلّ على شيء حقيقي: شعور عميق بأنهم في قلب معركة على جذب الجمهور، أفكار تخاطب العقل والقلب في آن معاً، صياغات تعيد إلى الأذهان المعنى السياسي والإصلاحي للمعركة، ولا يغيب عن بال القائمين عليها حقهم في الوصول إلى كل ناخب، وإلى كل صوت. وتعكس من ناحية ثانية الحوافز غير العادية، وهي غير مادية على الإطلاق، الموجودة لدى الفريق المعني بالعمل، حتى يبدو سامي صعب (مسؤول الحملة الإعلانية للتيار الوطني الحر) كادراً حزبياً من الطراز الرفيع، حيث بمقدوره أن يقوم محل المرشحين في إيصال أفكار وشعارات ومواقف تهزّ الناخب وتجعله يتفاعل، سواء أكان حليفاً أم مناصراً أم خصماً... لكن الحملة تدلّ على حيوية لها الأفق الحقيقي، وتدل على القدرة على تحقيق الفوز يوم السابع من حزيران.
ابراهيم الأمين- "الأخبار"