كيلو كفتة، تلاتة كيلو شقف، وقية سودا، وقيتين راس عصفور و شوية عضام " . طلبات متعددة يتلقاها " اللحام " في عمله. اللحام الذي يُتهم دائما بأنه يغش. يدخل اليه الزبون و كأنه " المحقق كونان " فيراقبه عن كثب لكي لا يمرر قطعة لحم مشبوهة .
تُشكل" الملحمة " قبلة الذواقين الجائعين، الأمهات والاباء. وحتى الاولاد الذين حصلوا على مكافئة سندويش لحمة مشوية بعد تحصيلهم لعلامة مدرسية جيدة . تجتمع فيها الجنة والنار. جنة المشاوي ونار الفحم . أما في شهر رمضان تختلف المعادلة قليلا . " الترويقة " تصبح " سحورا" ودخان النهار يسرقه الليل .
تتعدد " الملاحم" في النبطية الفوقا. تتوزع بين عائلات آل حوماني و غندور و ملي .
تتميز ملحمة الحبايب بحس خاص. فصاحبها موسى حوماني وأخيه فؤاد يتقنون فن الزجل والتمثيل الشعبي . يحرك موسى السكين مع سيجارته .وينفس همومه مع ابيات زجله :
" كنفشي و بهورة ومع الفقير نحنا لآم و دولارات بالبنوكي حاطين
اذا حدا نوى يساعد أو يعمل إهتمام بشرط اسمو بالبداية طابعين "
يتمرد موسى على الكثير من واقعنا الاجتماعي . يُفرغ غضبه بضربات على العظام المتبقية من جسد الحيوان المذبوح. تمتص " اللحمة المدقوقة " عنفوانه الثوري مع الكمونة آملا أن تحرك شيئا في جسد آكلها . فموسى ليس جزارا عاديا . هو فنان يعزف على خشبة اللحم والدم نهارا و فوق خشبة المسرح ليلا. انه بشري، تلك الفصيلة التي تهرب من صفاتها الحيوانية بلغة الموسيقى والكلمات . اخوه فؤاد مختلف، فهو يطمح لأن يصبح فنانا شعبيا على طراز محمد اسكندر. يمتلك صوتا جميلا وشخصية محبوبة و يغني في بعض الاعراس ليلا بعد اعداده للهمبرغر و السجق والبفتاك نهارا. يفتح ازرار قميصه كاشفا عن صدره الذي يحمل سيف الامام علي بن ابي طالب ويقول : من بعدك يا علي ما في عدل . تدخل إحدى الامهات وتوصيه بقطعة لحم مميزة، يرد عليها بأغنية لنجوى كرم . فتقول له : " يا فؤاد حرا م الاغاني " . يرد عليها : " الحرام هو الكلام لي كلو كذب". وكما يحمل المسرح كواليسه تحمل مهنة الجزار أسرارها. نشاهد عرضا جميلا لمدة ساعتين من دون ان نستذكر عذاب المخرج و مشاكل التدريب. فنرى ديكور المسرح الجميل فوق مجموعة من الاخشاب القديمة كما نرى" سيخ اللحم" المشوي بلا غوصٍ في صراعات الجزار مع رقبة ذبيحته .
سينتقل موسى إلى القفص الذهبي الصيف المقبل . لكنه وخلافا للمعتاد، أجرى عرسا قرويا شعبيا مع خطيبته، بزفة تراثية نظمها كشاف التربية الوطنية في النبطية الفوقا. لبس الطربوش وصعد على " عرباية " الأحصنة وتنقل في شوارع الضيعة راميا بكل هموم الذبح والدم و رافعا شعار الفرح والتكاتف مع اهل بلدته الذين لم يخذلوه بل شاركوا بعرسه الرمزي كبارا و صغارا . وأكد ان فلسفة البساطة في زرع البسمة كفيلة لهدم كل عوامل الإحباط بدفٍ و مزمار .
تتخطى صفة ملحمة الحبايب " الملحمة" . فهي أيضا ساحة لتجمع الشباب من كل الاطياف. جاره المختار علي غندور ، يزوره في اليوم عشر مرات . المختار الشاب العائد من الغربة والذي كسر تابو "المخترة" بحصرها بكبار السن . يدخل الى الملحمة بعد تلصيقه للطوابع ليأخذ استراحة من تعبئة طلبات اخراج القيد وجوازات السفر فيسافر مع لقمة الكفتة النية وكأنه يصرخ بلسان محمود درويش :
" لا تسألوا الأشجار عن إسمها.. لا تسألو الوديان عن أمها....كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر" .
يؤكد مختار النبطية الفوقا لجاره بأن الدنيا ما زالت بألف خير ، يرد عليه موسى : " بوجود اللحمة واللقمة الطيبة والقلوب المْحبة نحنا بخير يا مختار" .
يزور آكلي السودا و الكفتة أيضاً " قاسم اللحام" و "ابو عباس غندور " و " آل ملي " و "ملحمة فضل " و" محمد بيومي" ايضاً . ولكل من الجزارين شخصيته و ذوقه الخاص في وضع الخلطات السحرية الا ان جميعهم يشتركون في سَن السكين و طريقة الذبح الشرعية . يشكل عيد الأضحى يوم العمل الأكبر لهم . فهو عيد تقديم الأضاحي للسماء بإطعام الفقراء . يقول اللحام فضل غندور : " اللحمة عندي للفقراء وليست فقط للأغنياء" . فهو يبيع سندويش اللحمة بسعر سندويش الفلافل .
على مذبح الحيوانات يتساوى الجميع بغرائزهم مشكلين تكتل قوي بوجه السياسيين والنباتيين . يشكل سكين الجزار المبلول بالدم سلاحا ذو حدين. فهو قد يشعل ثورة و قد يُخمدها. يتحكم بالجسد الجائع كالدمى المتحركة، فإن أجاد استعمال سكينه قد يتغلب بتقطيعاته على ضربات القاضي فوق محكمته، و يُسكت الفيلسوف الباحث في صومعته، اذ ان حل مشاكل اللحظة بكل ابعادها في يده، كما يقول الأديب فرانز كافكا :
"طالما يوجد طعام في فمك، فقد حللت كافة الأمور في الوقت الحالي " .
عباس جعفر الحاج أحمد
كاتب في موقع بنت جبيل