قبل عقود من الزمن.. في حياة آبائنا وأجدادنا، كانت "الجَمعةُ العائلية" من أهم الروابط بين الأهل وأولادهم. أما اليوم فقد أصبحت "صلة الوصل" بين أفراد العائلة قصة من الأمس يرويها لنا أبناء الأجيال الماضية. لم تكن تلك الإجتماعات العائلية واردة في المناسـبات قط، بل كل يوم وعند كل وجبة طعام وعلى سـفرة واحدة.
أذكر من أيام جدي(الحاج جميل جابر رحمه له)، أنه كلما حان وقت الطعام كان فرضاً واجباً علينا كباراً وصغاراً أن نجلس حول المائدة المباركة ونأكل سوية. ولم يعطِ لأي منا عذراً للغياب. أما في السـهرات الشـتوية حول الموقدة وبيد كل منا "كاسـة شـاي - يتمزمز بها" كنا نتسـامر الأحاديث السـياسـية والحكايات التارخية وعادات "اهل زمان" كما يسـميها جيلنا اليوم. لن أنسـى يوما السـهرات الصيفية أيضا على "السّـطـَيحَة" برفقة "ابو حسـين" (علي المير بزي رحمه الله) وبعض الجيران والأحبة. ولم يخلو جو السـهرة يوماً من صوت أبو حسين العذب حيث كان يروق لنا سـماع أبيات العتابا. ذلك هو بيت جدي الذي ترعرت فيه واعتدت على أبوابه المشروعة للناس الطيبين، وعتبته الخيّرة. ذلك هو المنبع الذي ملأ قلبي حبّا للناس والعطاء وصلة الرحم.
أما اليوم.. فقد وقعنا على أوراق مجهولة في زمن عريق. وعلى هذه الصفحات خرائط عالمية تظم أبناء وأحفاد الذين رحلوا. كبلاد العم سـام مثلاً! حيث يجري الصغير والكبير وراء لقمة العيش والدولار و يمرّ على أهله مرور الكرام. ولربما سـينسـى أن يصبّح ويمسّـي عليهم أو لا يجد أحداً بانتظاره أو يفتقده أصلا. فمن المؤسـف والمخزي أن مجتمعاتنا وأجيالنا تفتقد للكثير من ذلك التراث الشعبي والديني والأخلاقي. لكنهم تخلوا عن ورثة باهظة الثمن لا يحصي قيمتها إلا من افتقدها. فيبدو أن أجدادنا قد دفنوا ودفنت القيم بتاريخ صفحاتهم التي أصبحت اليوم جزءاً من كتاب مملّ لا يُقرأ.
لذا.. لو تعود تلك الأيام ويعود الأحباب إلى ديارهم التي أخفت خلف جدرانها ذكريات وحكايات ولحظات لن تعود. لعلّهم يرجعوا ليسـكبوا بعضا من كأس المحبة في قلوبنا ويروونا في زمن قد جفت به مياه الأخوة والصداقة والجيرة والإخلاص.