أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

حياة ما بعد العدوان ..قصـص النـاس تحـت شمـس بنـت جبيـل..

السبت 11 تموز , 2009 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 6,734 زائر

 حياة ما بعد العدوان ..قصـص النـاس تحـت شمـس بنـت جبيـل..


تحمل «عدَّتين» من الخبز في الكيسين. و«العدّة» عشرون رغيفاً، تبيعها بسبعة آلاف ليرة لبنانية بدلاً من ثمانية آلاف، وهو السعر المتعارف عليه في المدينة: «هيك بحتفظ بزبائني»، تقول.
يكثر زبائن الحاجة مريم مع حلول فصل الصيف والإقبال الاغترابي الذي يُغني بنت جبيل ويحرّكها في الأعوام العادية، كما العام الحالي.
ثلاث سنوات مرّت على العدوان، وكانت كافية بالنسبة إلى أبنائها، المنتشرين في الأصقاع الأميركية بالدرجة الأولى، لكي يحضروا ويتفقدوا مكاناً سمعوا أن المقاتلات الإسرائيلية قلبته رأساً على عقب.
هل تقبل الحاجة بتوصيلها بالسيارة لتعطي الخبز ثم إلى بيتها، ما دامت الطريق طويلة أمامها؟ «لأ يا بنتي، عندها الست كيلوّين زعتر بلدي بدي دقّ لها إياهن».
سبعون عاماً ليست كافية للتقاعد البديهي: «ابني درس بالكمبيوتر، لكنه عاطل من العمل».
قضت السيدة السبعينية عمرها تعمل في المنازل، تربي وتعلّم، على أمل أن ترتاح في «كبرتها». وحيدها لا ينتمي إلى أي من القوى السياسية النافذة على الأرض، ما يعني في بعض الأحوال أن يبقى «بلا ضهر»، وبالتالي بلا عمل. لا تصلها مساعدات من أي جهة، وعليها أن تأتي بخبز يومها وبكفافه من عرق جبينها، مثلما تفعل يومياً.
مع صلاة الفجر، تركّب الحاجة صاجها وتبدأ وحيدة بـ«رقّ» أقراص العجين وهلّ الأرغفة وخبزها. يداها متعبتان من الحركة ومن توصيل «الطلبيات» إلى منازل تكون بعيدة أحياناً، وقريبة في أحيان أخرى: «بس كله عليّ بعيد»، تقول وهي تكشف عن ساقين أكلهما «الفاريز»، ونالت منهما جلطات الدم الصغيرة.
يوميات الناس في شوارع الشمس
على الطريق إلى قلب بنت جبيل، الذي لم يبق فيه حجر على حجر خلال عدوان تموز 2006، تسمع ضربات الهراوات وحركة آليات البناء وأصوات العمال الخارجين إلى يوم طويل. إنها الورشة التي تقودها المدينة وأطرافها لاستعادة قلبها.
في قلب بنت جبيل، تنعكس الأدوار عمّا هي عليه في الجسد. فالقلب يمدّ الجسد بالحركة والحياة. أما في بنت جبيل فتستنفر الأطراف في حركة دؤوبة، لاسترداد القلب الذي قيل إن إسرائيل نالت منه انتقاماً من مدينة بـ«أمها وأبيها» ظلت وبقيت عصية على التطويع.
في هذه المدينة، لكل من الخارجين مع الفجر قصته: هذا مثلاً من يارون، يأتي بعماله لتركيب «بياض» ورشة كبيرة على أطراف المدينة. و«البياض» بلغة «السنكري» هو أطقم الحمامات والمجلى في المطبخ وما يلزم من صنابير و«خلاطات». يقول حسن خنافر انها ورشته السادسة في المدينة: «الحمد لله الشغل ماشي، ربّ ضارة نافعة».
لم تنل يارون من العدوان ما يكفي لتحريك عجلتها الاقتصادية و«حرفييها». قصد حسن عاصمة القضاء، ومن دون تعب، وجد لنفسه مكاناً في مدينة لطالما استوعبت محيطها وحرّكته على وقْعها.
أما العمال فمعظمهم سوريون، و«المياومون» منهم تحديداً. تجدهم في ساحة بنت جبيل صباحاً، مرتاحين إلى لقمة عيش مؤمنة وإلى تحويلات لعائلاتهم في سوريا، والأهم من ذلك، راحتهم إلى «الجو السياسي والاجتماعي»، يقول خير الله ابن دير الزور.
يمضي خير الله سنته الثالثة على التوالي في المنطقة: «فيه مصاري ببنت جبيل، والناس كلها استفادت من التعويضات»، يقول الرجل بنبرة الواثق من معلوماته.
«المصاري نسبية»، يضيف المعلّم المسؤول عن عمل خير الله، ابن مارون الراس، وهو نجار إسمنت («بيتون»)، لم يهدأ منذ ثلاث سنوات وحتى اليوم: «يومية المعلم بثلاثين دولارا ويا ريت تلاقيه»، يقول. ويشير إلى أنها السنة الأولى التي يرسل فيها أولاده إلى مدرسة «محترمة» في المنطقة. و«المحترمة» تعني بالنسبة إليه تعني: «الخاصة».
أما «نسبية المصاري» فهي «البحبوحة» التي يتحدث عنها العامل السوري مقارنة بما «بالكاد يكفي اللبناني في يومياته، يعني مستوى الدخل والمعيشة في لبنان يختلفان عنهما في سوريا، وكذلك المتطلبات».
في قلب الورشة أيضاً، تجد محمد شعبان. يسحب الرجل قدميه سحباً، وقد غادر منزله في الأطراف مع انبلاج الفجر. بيده، يحمل رب الأسرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص، ترمس القهوة المثقوب بداخون الفحم المشتعل، وباليد الأخرى، يحمل قارورة معبأة بالقهوة الباردة. يعيش محمد وزوجته وابنته الوحيدة من ثمن القهوة التي يبيعها. يلاقي العمال الخارجين باكراً إلى ورشهم، وينتظرهم عند المنعطفات «الحساسة» التي تؤدي إلى أكثر من زاروب في قلب المدينة.
فنجان القهوة بخمسمئة ليرة لبنانية، وكلما باع محمد فنجاناً، يسكب غيره في الترمس من القارورة الباردة، وينفخ على الفحم لتسخينه.
عشرون ألف ليرة هي حصيلة يوم وافر من البيع، يعود بعدها بما تيسر إلى عائلة تنتظر يوميته لتعيش حياتها يوماً بيوم.
لم تترك «مصائب الدهر»، كما يسميها محمد، له «جنباً» يميل عليه. ولد للعائلة أربعة أطفال مصابين بسرطان في العيون. دفع الأب جنى عمره للمستشفيات والأطباء، وكان يعود منها، في كل مرة، بأطفاله، الواحد تلو الآخر، جثة هامدة. لم يعش للعائلة سوى ابنة وحيدة تعاني ضعفا في النظر.
لها، لزوجته، ولنفسه، يواصل محمد تعب أيامه.
فجر الخميس الذي يستفيد منه محمد كبائع قهوة، لا يشبه صباحات بنت جبيل في أيامها العادية. يومها، أي يوم الخميس، تفتح المدينة ذراعيها لسوقها التاريخي، وحيويته التجارية، باكراً. ما أن تحل السادسة صباحاً، حتى يبدأ الباعة بتركيب منصاتهم ونشر «بسطاتهم» على جوانب الطريق، على بعد حوالى 150 متراً عن السوق القديم الذي تعيد دولة قطر بناءه.
السوق.. ورصيف الحاجة آمنة
يعاد بناء السوق وفقاً لمواصفات هندسية تأخذ من الشكل القديم قناطره، وتطوّر في الداخل بما يتلاءم مع العصر ومتطلباته.
إلى السوق، تقبل هامة منحنية لسيدة في تسعينيات العمر. تسير الحاجة آمنة إيراني، وقد التصق رأسها بركبتيها. انحناءة لا تحول دون قدرتها على «الكرج» كحجلة في عز تبخترها.
لا تزال السيدة التسعينية تعمل طوال الأسبوع لـ«تحصد» جناها صباح كل خميس. والعمل هنا يقتصر على الممكن. فتجول الحاجة آمنة على بيوت بنت جبيل التي باتت عائلاتها تعرفها حق المعرفة. تجمع ما يجود به الأهالي عليها، وتبيعه صباحاً، فتعود بمؤونتها من السوق لأسبوع كامل.
تسأل الحاجة عن عائلتها، فتسهب في شرح معاناة وحيدها الذي يجمع الخردة من مستوعبات النفايات ليعيل ثلاثة أولاد وزوجة: «ما بيقدر يصرف عليّ كمان، الله يساعده».
تسألها عمن ينظر في حالها، فتقول انهم «الناس»، وتعرف من بضاعتها صدق إجابتها. في هذه الأيام، تكثر الألبسة والحقائب والأدوات الأميركية في بسطة الحاجة آمنة. إنهم المغتربون الذين يعطونها بعض ما يحملونه معهم من هناك، علّها تجد زبائن راغبين باقتناء «الأميركي».
تفتح الحاجة كيسها، بعدما تسند حوضها إلى حافة الرصيف في سوق الجاهز. «تفلش بضاعتها وتنادي على المارة: «تعي اشتري مني جزدان امريكاني... عندي عباية بتلبقلك من أميركا... معي طقم ولادي بيسوى كتير بس خديه أنت بخمسة آلاف... يا شقرا، يا ام عباية، يا صبية... يا ابو العيلة». لديها لكل من العابرين صفة «بتلبقله». وتبقى على هذا المنوال إلى أن يفرغ الكيس، فينتهي السوق بالنسبة إلى الحاجة آمنة.
عندها، تقفل المرأة عائدة إلى بيتها بستة أرغفة مرقوقة، «ما بقدر أعلك غير خبز القمح»، وبكيلوغرام ونصف من البرتقال، «بيبل القلب»، واللبنة، و«سطل» صغير من اللبن، فيتكون زادها لأسبوع متعب آخر.
في أثناء حديثها عن عدم قدرتها على تناول كل شيء، تمعن العينان النظر في وجه الحاجة آمنة. وجه ابيض يميل إلى الاحمرار تزينه عينان خضراوان داكنتان مع شعر تكشف جذوره أصول لونه الكستنائي. تقول للحاجة انها جميلة، وانها بالتأكيد كانت أجمل في صباها، فترد بابتسامة تعيد بعض الطفولة إلى وجهها المتجعد: «يحلا وبري يا بنتي، شو أجاني من الحلا؟».
يرممون قليلاً..
ليعيشوا بالباقي
ليس بعيداً عن السوق، وبالتحديد أمام منزلها في الجهة الشرقية لبنت جبيل، تضع مريم صاجها وتبدأ بيع مناقيشها: «الكشك من البقاع، اللبنة من الجرّة، والزعتر جنوبي»، واللحام إلى يمينها يلبي رغبات طالبي «اللحم بعجين».
لا تهدأ يدا فاطمة عن «هلّ» الأرغفة التي تفضل شواءها بداية ثم «تدهنها» باللبنة: «النار بتغير طعمة اللبنة وبتفقدها فايدتها»، تقول.
«اليومية خير الله»، تردف مشيرة إلى فضل السوق ورواده الذين يبلغ عددهم الآلاف.
يبدو أثر طلقات الرصاص الثقيل العيار، وربما المدفعي منه، واضحاً على الجدران الخارجية لمنزل فاطمة. تقول السيدة الأربعينية بابتسامة خبيثة: «قبضنا من حزب الله ومن القطريين، بس زوجي بخيل».
على «ذمة» فاطمة، أودع الزوج مال التعويضات في المصرف. قال لها ولأولاده الستة: «ما منعرف شو بيصير، البيت صالح للسكن، ما في ترميم».
تسهب فاطمة في شرح ما تسميه «بخل» زوجها الذي رفض شراء جهاز تلفزيون لأولاده: «عندنا تلفزيون خربان من أيام الفرنساوية يمكن، قال رح يصلحه، والله هالزلمي رح يفقّع لي قلبي». تقولها بالابتسامة المتواطئة التي تطبع محادثة أي سيدتين عن الرجال عادة.
ما الذي تغير في بنت جبيل بعد ثلاث سنوات على العدوان؟
«زاد البيتون» تقول فاطمة التي لا «تنق» من قلة الدخل ولا الزبائن: «في حركة بالمدينة، من عمال ومعلمين، واليوم جاء المغتربون».
«النق» تجده عند محمد شعبان بائع القهوة :«الناس تغيّرت، في ناس صارت فوق الريح من كترة المصاري، وصارت ما تشوف العالم من سياراتها الجديدة، ما عاد حدا يتطلع بحدا».
تسأل محمد عن تعويضاته فيقول ان منزله لم يتضرر أصلاً: «يعني عصر التعويضات لم يمر عليّ». يشتكي مما يراه حوله: «كان في ناس ما معها ليرة، صارت صاحبة بنايات»، مشيراً إلى أحد الأبنية في قلب بنت جبيل: «هيدا كان عنده غرفة وعليّة قبض على أساس وحدتين سكنيتين وصار ملّاكاً كبيراً».
موضوع الاختلاف في حجم التعويضات حاضر على ألسنة الجميع تقريباً في بنت جبيل. هناك من يشتكي لأنه قبض عن وحدة سكنية واحدة فقط، فيما قبض غيره عن اثنتين. آخر يشتكي من قبضه بدل وحدتين سكنيتين، فيما حصل جاره على تعويض ثلاث وحدات.. وهكذا دواليك.
ومن بين أهالي الشهداء المقاومين، تجد «القوي» و«الضعيف»، أيضاً.
هذه سيدة استشهد ولدها مع «الحزب»، فأمنت شقة كبيرة وقالت لهم: «ادفعوا حقها»، ففعلوا. هذه والدة شهيد آخر يتعبها الجهد الذي تبذله سعياً وراء كل ما يمكن أن يعود عليها بالفائدة، فلا تعرف جميع حقوقها وكيفية تحصيلها: «يعني إذا ما سعيت، بيروح عليّ كتير أشيا».
«الحرب ما طلعت منهم»
تقارب عقارب الساعة الظهيرة، فتستحق مدينة القصص الكثيرة لقبها كبيت للشمس، عن جدارة. إذ يشعر المرء عند الظهيرة بأن الشمس تتجهز لتعود فعلياً إلى بيتها، لشدة انخفاضها وحدّة لهيبها.
أما القصص فتقول ان بنت جبيل، وبعد ثلاث سنوات على العدوان، تقترب أكثر من أي وقت مضى من لحظة استئناف نمط العيش العادي.. ولكن، هل ذلك ممكن؟
«ممكن، ولكن لم يتم بعد، حتى اليوم»، تقول سيدة تحتسي قهوتها على شرفة منزل حجري أنيق، يطل على حديقة ومرجوحة للأطفال.
خلال العدوان، تضرر منزل السيدة التي لا ترغب بذكر اسمها، ورممته من تعويضات «الحزب» والقطريين. ولأم الأولاد الأربعة وجهة نظر خاصة حول استئناف الحياة، بعدما «قضيت نصف الحرب مع أولادي في قبو المنزل».
تحت القصف، هربت العائلة إلى بيروت، وعادت بعد مرور ثلاثة أيام على وقف العدوان.
اليوم، تفكر السيدة جدياً في استشارة مختص في علم النفس لأن ولدها الصغير ما زال يتبول في لباسه ليلاً، ويعاني من أحلام مزعجة. لا يقبل ابن الست سنوات أن يشارك في أي «كزدورة» قد تشرف على فلسطين المحتلة. يخاف أن يراه الإسرائيلي و«يطخه»، حسبما يقول. تشكّل إمكانية شنّ إسرائيل عدواناً آخر هاجساً ليس بالنسبة إليه فقط، بل بالنسبة إلى إخوته أيضاً: «يعني الحرب ما طلعت منهم».
السيدة لم تتشرد كثيراً مع أسرتها: «شو وضع الناس اللي بقيت سنة وسنتين برّا بيتها؟»، تسأل.
هذه الحسابات «النفسية» تسقط لدى الحديث عن الأرقام مع رئيس بلدية بنت جبيل عفيف بزي.
يعترف بزي بالأثر النفسي على الناس، ولكنه يرى من جهة ثانية أن «الأولويات كانت في مكان آخر». كان همّ «حزب الله» أن يزيل الركام ويفتح الطرق، وأن يجري مسحاً ميدانياً للأضرار، وأن يؤمن سكنا للمدمرة منازلهم..»فاستهلك ذلك وقتاً».
وفي حسابات بزي أيضاً، أن تتمكن من إعادة خمسمئة عائلة إلى بيوتهم بعد مرور شهر واحد على وقف إطلاق النار، فذلك يساهم أيضاً في تحسين نفسية الناس.
صعوبات «أثرية» و«إرثية»
يقول بزي انه، بعد مرور ثلاث سنوات على العدوان، عاد إلى المدينة 95 في المئة من أهلها: «وبات عدد المقيمين حالياً يقارب العدد الصيفي لأهالي بنت جبيل، وهو خمسة آلاف نسمة، نضيف إليها ألفي مغترب».
من قلب بنت جبيل إلى أطرافها، تنقسم المدينة إلى مشهدين. مشهد نال حصة متوسطة من الدمار، فكان من السهل مسحه وترميمه، وإعادة إعماره.
أما المشهد الثاني الذي استهلك الجهد كله فيسكن قلب بنت جبيل التاريخي، الذي يعود بناؤه إلى مئتين وثلاثمئة سنة. وضعت الحجارة الأولى من «الكلان»، ومن حجر الصخر «الغشيم»، وهو الحجر الذي لا يقولبه النحات وفق شكل واحد موحد.
فبانت المشاكل كلها دفعة واحدة في قلب المدينة: المنازل قديمة، لا يتوافر تحديد للعقارات ولا مسح عقاري واضح، وطبعاً، المنطقة غير مفروزة.
يقول رئيس البلدية انه تم بناء حوالى سبعين في المئة من هياكل قلب بنت جبيل وبقي «التشطيب».
يحتاج المرء إلى وقت طويل ليتأمل في حجارة بنت جبيل العتيقة. حجارة، عجز الأهالي عن استعمالها مرة ثانية في إعادة الإعمار، لندرتها، ولارتفاع أسعارها إن توفرت.
يقول بزي ان البلدية والمكتب الاستشاري القطري والمهندسين المهتمين بروح المدينة لم يتمكنوا من انجاز ما تمنوه لبنت جبيل و«لذاكرة بيوت الأجداد والبيوت الحجرية». ويعترف بزي بأن نسبة الرضى عما أنجز لا تتجاوز الخمسين في المئة: «كانت مدينة خاماً ولم نتمكن من ترميمها كما يجب لأسباب كثيرة، منها «الإرث الموزّع على الجيلين الثالث والرابع من الأهالي، وارتفاع كلفة الحجر الصخري الذي شكل عماد البناء فيها، وكذلك رغبات الأهالي أنفسهم».
ومن بين ستمئة بيت أثري، نجح القيمون، مجتمعين، على إعادة بناء مئة بيت فقط على صورتها ما قبل العدوان، وهي البيوت التي وافق أصحــابها على أن يستعيدوا منـازلهم كما كــانت. ويعتبر الأهالي أن «هؤلاء، في الغالب، يمتلكون منازل أخرى تستوعبهم وتستوعب ذريتهم، ويعــتبر البـيت الأثري ثانوياً بالنسبة إلى متطلبات حياتهم».
أبواب الرزق تحتاج
«الترميم» أيضاً!
إلى الإعمار الذي تكثر الشكاوى منه ومن كيفية توزيع تعويضاته، يجمع الأهالي على ضرورة إثارة موضوع خسائر المحال التجارية والبضائع والمؤسسات والسيارات. يؤكد بزي أن قيمة خسائر المؤسسات التجارية بلغت 18 مليون دولار في بنت جبيل وحدها. هناك ستمئة سيارة دمرت بالكامل، أيضاً، من بينها لآليات وشاحنات كثيرة لا يقل سعر الواحدة منها عن ثلاثين إلى أربعين ألف دولار، لم تعوض الدولة دمارها.
إلى جانب الآليات والسيارات، فقد أهالي بنت جبيل مواسمهم على مدى موسمين متتاليين أي لعامي 2006 و2007، فيما حلّ موسم العام 2008 جزئياً. أضف إلى ذلك خسارة قطاع المواشي والدواجن الذي يشكل مصدر دخل بالنسبة إلى الكثير من أبناء المدينة ومحيطها.
لكن، «كيف لريف كمحيط بنت جبيل أن ينهض من خسائره ويستأنف حياته الطبيعية من دون مقوماته الإنتاجية؟»، يقول حسن بزي الذي خسر شاحنة بحص «قلاّب» لا يقل ثمنها عن أربعين ألف دولار.
كانت شاحنة حسن مصدر رزقه في إعالة أولاده الستة، وها هو، منذ إجراء مسح الأضرار، ينتظر فرجاً لم يأت، ويبدو انه لن يأتي في القريب العاجل.
قبض حسن بدل تعويض عن وحدتين سكنيتين لأنه كان يملك منزلاً مؤلفاً من طابقين. بنى وحدة سكنية بعدما «طارت أسعار الحديد ومعها مواد البناء وكلفته»، وصرف ما بقي من التعويض على عائلته: «يعني بستف طابقين وبترك أولادي بلا أكل؟»، يقول مبرراً عدم استعماله مال التعويض كله للبناء.
وحدهم مستثمرو دكاكين سوق بنت جبيل وملاكها حصلوا على تعويضات، إثر تبني دولة قطر إعادة إعمار السوق. وإعادة الإعمار هنا تتم بمراعاة الطراز الحجري للسوق، فيكون التطوير في داخل المحال. يُبنى السوق حالياً على طبقتين، بحيث يكون لكل محل تجاري «متخت» ومرحاض وتوصيلات للمياه، وهي عناصر لم يكن متوفرة في المحال قبل العدوان.
يتوقع رئيس بلدية بنت جبيل استكمال بناء السوق بعد سنة من يومنا هذا، أي في الذكرى الرابعة للعدوان. عندها، يأمل بزي أن يتحرك سوق بنت جبيل التجاري ومعه حركتها الاقتصادية: «نأمل أن تعود المدينة إلى دورها كمركز فعلي لكل القضاء والمحيط، من حاصبيا والعرقوب إلى الناقورة، كما كانت في السابق».
و«في السابق»، تعني أيضاً فلسطين التي كان أهلها يؤمّون بنت جبيل، وخصوصاً سوقها.
ختاماً، وبعد ثلاث سنوات على العدوان، يرى رئيس بلدية بنت جبيل عفيف بزي أن المدينة بدأت تقريباً تستعيد حياتها الطبيعية. في المقابل، تسأل الحاجة افتخار: «أي حياة منها؟»، وهي تنتظر تعويضها عن غرفة ورثتها عن جدتها: «الأشيا اللي بتروح، صعب ترجع متل ما كانت! يعني الزجاج بينكسر، بتشتري غيره.. ويمكن أحدث منه، بس أبدا ما فيكي ترديه نفسه».
تشييد مزار لشهداء العدوان (علي الصغير)

Script executed in 0.16852688789368