أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

البقاع يسأل: بماذا تفرق حرب تموز عما سبقها أو تلاها؟

السبت 11 تموز , 2009 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 1,753 زائر

البقاع يسأل: بماذا تفرق حرب تموز عما سبقها أو تلاها؟
 مررت على البقاع أسأل عن آثار بقيت على الأرض وفي النفوس. أبحث عن بشرى التي خسرت عائلتها، وعن طاهرة التي استشهد زوجها المقاوم. أعاين علي النهري وشمسطار وطاريا... وبريتال التي استشهدت فيها شابة وهي حامل بالحياة، وعائلة امتزجت أشلاؤها بركام المنزل وامتزج صراخها بقرقعة الحديد ساعات الإنقاذ.
أسأل عن آثار ثلاثة وثلاثين يوما من القصف والخوف والتهجير، وعن الحياة التي تلتها، وقد مرّت ثلاث سنوات...
أبحث عن بقايا مشاهد، بين مشاهد أخرى معهودة في المحافظة الخضراء: رحلات تبدأ مع الصباح عند متاجر الألبان والأجبان. و«القلب» زحلة ينبض بروتين الإدارة في المصارف والمتاجر والقصر العدلي وسراياه... ثم تأتي قطع «الداما» التي طالما شبّه بها سهل البقاع في كتب الجغرافيا. هناك حيث يسبح العمّال في بحر أخضر تكسر ثيابهم الزاهية الألوان رتابته بين الحين والآخر. فيما تعلو وتنخفض رؤوس مكلّلة بكومة قماش تحاول مقاومة لهيب الشمس.
تحتها، تضحك سمرة أصيلة والنظر ثاقب يحاول استكشاف الزائر وهدف الزيارة. مهما تكن، فنصيب من يلقي التحية عليهم «كمشة» من المحصول مجبولة بالتراب.
لدى اجتياز سلسلة الجبال الغربية، لا شيء يقفز إلى النظر سوى المشاهد «البقاعية» المعهودة باستثناء جسر المديرج الذي لم تلتئم أجزاؤه بعد. تمرّ تباعا على بعض من المصانع التي نالت نصيبها من الصواريخ الإسرائيلية ومنها مصنع الموسوي للحديد و«liban lait " وغيرهما... لكنهما ليسا الوحيدين بالطبع. فلائحة المتضررين من أصحاب الصناعات والزراعات وحتى المرافق السياحية التي مازالت تحتفظ بها غرفة الصناعة والتجارة في زحلة طويلة. سجلّ عليها 262 اسما من متضررين ومطالبين بالتعويضات عن خسائرهم الزراعية، و62 مصنعا (كبيرا وصغيرا) تضررت مباشرة و56 مؤسسة مختلفة تطالب بالتعويض عن أضرارها غير المباشرة. كانت أجزاء اللائحة مبعثرة «لأنها تنقل من مكان لآخر» بحسب أحد المسؤولين في الغرفة وقد حصلوا عليها من خلال عملهم التطوعي في تلقي شكاوى المتضررين. ولم يترجم عملهم على أرض الواقع لا سيما أن «الهيئة العليا رفضت جزءا من المسح الذي أقيم على أساس أنها ستقوم هي بمسح الأضرار» يضيف المسؤول نفسه.
هكذا بقيت الأضرار ركاما فوق حطام، أو حبرا على ورق، والورق يضيع من أيدي أصحابه بين الحين والآخر، لأن الغرفة انتقلت إلى دورة أعمالها العادية ولأن موضوع حرب تموز بكافة أضرارها أصبح من الماضي. وهكذا يمكن القول ان تلك اللائحة لم تسجّل الّا للتاريخ أو لغرض ما في المستقبل، هو حتما ليس لمعاينة الأضرار أو التعويض عنها.
ويضيف المسؤول أن «المحظوظين» من أصحاب الصناعات الذين تم التعويض عنهم «قلائل» لا بل نادرين. أما المزارعين فلم يشملهم حتى ترف المعاينة. وقد منيوا بخسائر فادحة أيام الحرب ما زالوا يحاولون محو آثارها المادية. وقد اضطروا إلى الاستدانة للتعويض عن كساد المحصول وتلفه في ذاك العام.
والحال على ما هي عليه منذ العام 2006، لا نيّة للدولة في التعويض، ولا يوجد متضررون يؤمنون بجدوى متابعتهم لملفاتهم.
والنتيجة صناعات أقفلت، بعض منها كانت مصدّرة، ومزارعون يخافون من التخلي عن الزراعة لأن لا شيء آخر يفعلونه.
أما بالنسبة للمرافق السياحية، فيشهد هذا العام إعادة إحياء لبعض منها بعد الخسائر التي تكبّدتها في العام 2006 ليس بفعل القصف فحسب بل بفعل توقف أعمالها لخلوها من الزبائن والعمّال.
الخلاصة، خسر البقاع صناعاته وقطاعه الزراعي فيما يحاول استعادة صورته السياحية.
لكنّ حرب تموز ليست سوى محطة في تاريخ البقاع لا الشرقي ولا الغربي ولا الأوسط، هي مرحلة من مراحل الحرمان والبؤس اللذين يعيشانهما أهله. لهذا يفاجئ السؤال عن حرب تموز وذيولها أهله.
وأسئلة من طراز هل أعدتم البناء؟ ومن عوّض عليكم؟ وكيف الحال اليوم بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب؟ تستدعي إلى اجابات بغبائية «نحاول إعادة البناء، بالطبع لم يعوّض علينا أحد والحال بعد الحرب مثله قبلها».
لا يخفي الحاج محمود من النبي شيت أن البعض ظنّ الحرب «مصيبة قوم عند قوم فوائد» معتبرا أنه عبر التعويض عن الأضرار يمكن أن يعيد بناء منزله بشكل أفضل. وانتظر أن تدفع فظاعة الحرب الدولة إلى الالتفات ولو قليلا إلى المنطقة. ولعلّ هؤلاء عادوا واستدركوا أنهم يعيشون في البقاع حيث تحجب الجبال حضور «الدولة».
لكن، وبحسب حديث بعض الأهل هناك، يبدو أنها مرّت ذات يوم بعد انتهاء الحرب. وقد رأوا فيها راعية لإعادة الإعمار فإذ بها تبحث في كومة الركام عن معيق لقبولها هذا الملف أو ذاك. أمّا الحجّة الأبرز «لا يمكن التعويض عن أرض مشاع غير مفروزة».
ملاحظة معظم أراضي البقاع مشاع، ولم تخضع للفرز.
بناء عليه يعيد علي شكر بناء عمارته وأخوته على نفقته الخاصة وبالدين، بعد أن استشهد والده وتهاوى مبنى العائلة الذي كان يحوي على متجر للثياب. أما البلدة فلملمت جراحها بعد أن استعادت بنيتها التحتية بفضل البنك الدولي وإيران وبلديتها.
في النبي شيت، تعيش بشرى شكر التي خسرت أمها وأشقائها الأربعة، وقد تزوجت وتنتظر مولودة أنثى. هي اشتاقت لهم لكنها تراهم في الأحلام، لا سيما حين تحزن. وتزور أضرحتهم أكثر من مرتين في الأسبوع فيما تحوّل ركام المنزل الذي هوى عليهم إلى روضة وحديقة للأطفال رفعت فوقها صور الشهداء الخمسة.
في البلدة أيضا تقطن طاهرة الموسوي التي استقبلت زوجها المقاوم حسام شهيدا بعد انتهاء الحرب، وألقت برأسها على نعشه وهي حامل بشهرها الخامس. استقبلت الشهادة بصدر رحب بينما كانت الحياة تملأ أحشاءها. ها هي اليوم ترى مولودها علي الرضا بأم العين وهو «صورة طبق الأصل عن والده الشهيد كأنه رحل وترك لي نسخة عنه» تقول. هي أيضا تزوجت من شقيق حسام.
تشبه قصص النبي شيت قصصا أخرى في البقاع حيث صور الشهداء ما زالت مرفوعة وحيث آثار العدوان مازالت بادية وحيث الأمل بالتفاتة واحدة من الدولة مفقود.
يختصر عضو المجلس الإقتصادي محيي الدين الجمال الوضع عموما فيشير إلى أن «الصناعة ضربت بالكامل ولم يستعد الا عشرين في المئة منها نشاطه. فيما لم يتم التعويض على المزارعين. وقد ارتفعت البطالة بشكل ملحوظ...» ومع غياب الأرقام التي لا معنى لها طالما أن الحالة مستشرية وتطال المحافظة بلدة بلدة، وقرية قرية يعتبر الجمال أنه من « المعيب الحديث عن ذيول لحرب تموز 2006 وقد مرّ عليها ثلاث سنوات».
قد يصحّ هذا التعليق في أي من الدول المتقدمة لكن ليس في لبنان، وحتما ليس في البقاع. وحال تردي الزراعة لا تعود إلى الحرب فقط، إذ تطلق عليها رصاصة الرحمة مع تخفيض تقديمات مشروع «اكسبورت بلاس» إلى الستين في المئة، بحسب رئيس نقابة مزارعي البطاطا جورج الصقر الذي يعتبر أنه «حين يكون المصدّر بخير يكون المزارع بخير». في حين يلفت نزيه البقاعي صاحب شركة لبيع الأسمدة أن «الزراعة في البقاع هي الأغلى في العالم لما يتكبده المزارع من مصاريف باهظة في المحروقات واليد العاملة وإيجار الأرض».
مررت أمس على أرض البقاع أحاول رصد آثار حرب تموز، فإذ بها تضيع بين آثار بؤس وحرمان أخرى، لم تصنعها إسرائيل بل إنها صنعت في لبنان.
هناك حيث يلهث الناس وراء لقمة العيش، لم يبق لهم الا الله والطائفة. فزعماء الصف الأول ليسوا بحاجة إليهم لاكتساب حقوق مدنية لهم كفعل يقومون به من باب استعراض عضلاتهم السياسية.
من البقاع، تبدو بيروت بعيدة. تحجبها الجبال الشبيهة بجدران حصينة، وكأن ما من جسور تربط بين العاصمة وبين الداخل.
أو ربما ما من باب تمرّ عبره المنطقة التي يمكن أن تكون الأخصب زراعيا وصناعيا وحتى سياحيا إلى «الدولة» بعديدها وعتادها...
وحده القانون يطير ويتسلل، خارقا بين الحين والآخر محاولات التفاف على القواعد العامة، وقد نسي من يدفع به إلى هناك أنه يقوم على أساسين: حقوق وواجبات... فإذا أخلّت الدولة اللبنانية بواجباتها من أين يمكن تحصد الحقوق؟

Script executed in 0.19725012779236