كتب عبد الباري عطوان:
عندما تنبأنا قبل أربعة أيام في هذه الصحيفة بأن الرئيس فلاديمير بوتين سيرد على الاهانة الإسرائيلية بالتسبب في اسقاط احدى طائراته ومقتل 15 ضابطا كانوا على متنها، والتي استهدفته شخصيا، الى جانب بلاده، الدولة العظمى، اما من خلال التهديد بإسقاط الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الأراضي السورية بشكل مباشر، او من خلال تزويد قوات الدفاع السورية بمنظومة صواريخ “اس 300” التي ستقوم بهذه المهمة، واكدنا ان سورية ستكون الرابح الأكبر في هذه الازمة، شكك الكثيرون في هذا الاستنتاج، وذهب البعض الى القول بأن الرئيس الروسي لن يرد لأنه “يخاف” من نتنياهو، ويحرص على العلاقات القوية مع "إسرائيل".
اليوم الاثنين اتصل الرئيس بوتين هاتفيا بنظيره السوري بشار الأسد، وابلغه بأن بلاده ستقوم بتسليم قوات الدفاع الجوي السورية منظومات صواريخ “اس 300” المتقدمة المضادة للطائرات في غضون أسبوعين.
الأخطر من ذلك ان الجنرال سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي، اعلن في مؤتمر صحافي عقده اليوم ان هذه الصواريخ المتطورة جدا ستتمكن من اعتراض الأهداف الجوية واسقاطها على مسافة تتجاوز 250 كيلومترا، أي في الأجواء اللبنانية التي استخدمتها الطائرات الإسرائيلية اكثر من مرة في الاغارة على اهداف سورية وايرانية في العمق السوري.
الجنرال شويغو أكد أيضا ان بلاده ستجهز المراكز القيادية لقوات الدفاع الجوية السورية بنظام آلي للتحكم لا يوجد حصريا الا لدى الجيش الروسي، مما سيضمن للإدارة المركزية لجميع الدفاعات الجوية السورية تحديد جميع الطائرات الروسية في الأجواء، مضيفا، وهذا هو الأهم، ان روسيا ستشوش على اتصالات أي طائرة تحاول ضرب سورية من فوق البحر المتوسط.
*
الرئيس بوتين لم يقبل الاعتذار من بنيامين نتنياهو عن الدور الإسرائيلي في اسقاط الطائرة “ايل 20″، ورفض تقبل التعازي منه في مقتل 15 ضابطا “استخباريا” كانوا على متنها، واقدم على رد حاسم وحازم “عمليا” على هذه الغطرسة الإسرائيلية والتعاطي بطريقة استهتارية مع دولة روسيا العظمى وتعريض أرواح ضباطها وجنودها للخطر، بتسليم هذه الصواريخ التي ستنهي العربدة الإسرائيلية في الأجواء السورية واللبنانية معا، وهذا تطور مفاجئ لم يتوقعه احد.
من اطلع على نص التسريبات الروسية “المتعمدة” لمحضر اجتماع قائد سلاح الجو الروسي مع نظيره الإسرائيلي الزائر الذي قيل انه حمل نتائج التحقيقات التي تبريء طيرانه من اسقاط الطائرة الروسية يشعر بحجم الغضب والالم الروسيين من جراء الجرح الإسرائيلي المادي والمعنوي معا، فالاجتماع لم يستغرق الا 21 دقيقة، وكان صاخبا احتوى الكثير من التلاسن، وغادر الجنرال الروسي القاعة دون ان يودع الإسرائيليين مهددا بأن أي طائرة تقترب من الساحل السوري سيتم اسقاطها فورا، وارسل 12 طائرة سوخوي و”اف 35″ الى هذه السواحل تحديا لإسرائيل، وذهبت الطائرات فعلا الى وجهتها ولم تعترضها أي طائرة إسرائيلية، مثلما كشفت المصادر الروسية خوفا ورعبا.
الرئيس بوتين “جامل” الإسرائيليين كثيرا، وتجاوب مع طلبهم بعدم تسليم القيادة السورية صواريخ “اس 300” لأنها تشكل تهديدا لأمن إسرائيل على حد وصفهم، رغم ان الصفقة جرى توقيعها من الجانبين الروسي والسوري، وتدرب الضباط السوريون على كيفية اطلاقها، ودفعت الحكومة السورية “العربون” قبل خمس سنوات، واكد هذه المعلومات الجنرال شويغو نفسه.
افيغدور ليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي لم نسمع له صوتا طوال الأيام الثلاثة الماضية، هدد قبل سنوات بأن الطائرات الإسرائيلية ستدمر أي منظومات صواريخ من طراز “اس 300” تُسّلم للجيش السوري وتتصدى للطائرات الإسرائيلية، فهل ما زال عند وعده، وهل سيرسل الطائرات لتدمير هذه المنظومات بعد تسليمها لسورية بعد أسبوعين مثلما تعهد الرئيس بوتين نفسه؟
لا نعتقد ان ليبرمان، ولا رئيسه نتنياهو، قادران على الدخول في مواجهة مع روسيا، والزمن الذي كانت تخترق فيه الطائرات الاسرائيلية الاجواء السورية وتصرب اهدافا في العمق السوري، وتعود سالمة قد ولىّ، او هكذا نعتقد، فالرئيس الروسي لا يكذب، ويقول ويفعل، وطفح كيله من الكذب وأساليب الخداع والغطرسة الإسرائيلية، وان تأتي هذه القناعة متأخرة خيرا من ان لا تأتي ابدا.
إسرائيل تعيس حالة من القلق عالية المنسوب، وتلقت قيادتها صفعة قوية اعماها الغرور عن توقعها وحجمها، ومصدرها، تضاف الى حالات قلق أخرى من صواريخ “حزب الله” وايران وسورية، ولا ننسى “حماس” في قطاع غزة، ولا نستغرب ان يكون حلفاؤها العرب يشاركونها قلقا مزدوجا، الأول على وضعها المؤسف، والثاني انعكاساته السلبية على مشروعهم في سورية الهادف الى التفكيك واسقاط النظام الذي تلقى ضربة قوية.
القيادة السورية التي كظمت الغيظ “مكرهة” طوال السنوات السبع الماضية، وتحملت “آلام” العلاقة الروسية الإسرائيلية ودورها في حرمانها من صواريخ دفاعية جوية “اس 300” تحمي اجواءها من الغارات الإسرائيلية، ربما خرجت “فائزة” من هذه الازمة التي جاءتها على طبق من ذهب، دون ان تسعى اليها.
ما ينطبق على القيادة السورية قد ينطبق أيضا على حليفتها الإيرانية، كليا او جزئيا، بشكل مؤقت او بصورة دائمة، فالتحالف الإيراني الروسي يقوى ويتعزز ويقترب من تطابق استراتيجي في اكثر من موقع، وتجلى ذلك في قمة طهران الثلاثية الأخيرة التي تصدرها بحث مستقبل ادلب، حيث كان الرئيسان بوتين وروحاني في خندق، والرئيس التركي رجب طيب اردوغان في خندق آخر.
لا نستبعد ان يتم تطويق هذه الازمة الروسية الإسرائيلية بعد فترة، تطول وتقصر، فاذا كانت دولا من العرب العاربة والمستعربة معا باتت تتمسح باعتاب نتنياهو وتتبرك به كحليف قوي، فمن الغباء ان نرى روسيا تحشد الدبابات والطائرات لتحرير فلسطين، فروسيا دولة عظمى لها مصالح، المشكلة تكمن فينا كعرب، الذين ضاعت بوصلة مصالحنا.
أي مصالحة روسية إسرائيلية ستكون غالية الثمن بالنسبة لتل ابيب، وامامنا الدرس التركي بكل تفاصيله، فإسقاط الطائرات الروسية ليس مهمة سهلة مأمون العواقب، يمكن تطويقها بتبويس اللحى واعتذار “شكلي”، فروسيا يحكمها اليوم رئيس مختلف خريج الـ”كي جي بي” يريد إعادة عظمتها، والثأر لإسقاط وتفكيك الاتحاد السوفييتي، ولا يمكن ان يتغافل طويلا عن حقيقة مفادها ان إسرائيل هي الحليف الاوثق لأمريكا وشريكة في كل حروبها ومؤامراتها.
نستشعر عن بعد تنهدات الارتياح في دمشق، مثلما نستشعر أصوات الألم والندم في تل ابيب.. والله جل وعلى “يمهل ولا يهمل”.. والأيام بيننا.