أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

على باب المحكمة الجعفرية: هموم وشجون و.. حياة

الثلاثاء 14 تموز , 2009 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 22,612 زائر

على باب المحكمة الجعفرية: هموم وشجون و.. حياة

وسرعان ما تأتي اجابة «المدّعي» أو «المدّعى عليه» مذيلة بفحوى القضية - باقتضاب - التي قد تكون مؤجلة أو وليدة ساعتها. خلف المنضدة التي يستند إليها الشاب «الأمني»، تنتصب لافتة تعرّف بـ«رئيس القلم».
الخيار واضح أمامك: اما الدخول الى غرفة الانتظار، أو الاستئذان من الحاجب الواقف أمام باب القاضي، في حال وجود «الموعد المسبق». أما غير ذلك من الحالات فتكون نهاية انتظارها بالتسلل الى الباب الموارب، وعرض القضية على القاضي ـ الشيخ.
تقع المحكمة في الطابق الثاني من مبنى سكني. وتتوزع غرفها على النحو التالي: رئيس القلم، القاضي الأول (الشيخ جمال فقيه ـ حالياً) والقاضي الثاني (الشيخ علي المولي)، وهو رئيس المحكمة، ثم الأرشيف، وغرفة الكومبيوتر التي تحتوي على ثلاثة أجهزة كومبيوتر تصنع نظام المكننة، وأخيراً قاعة المحكمة الصغيرة.
يلقي الجو الحار بظلاله على أرجاء الغرفة التي يتوافد إليها «المنتظرون». تسأم احدى السيدات من تقنين الكهرباء الذي «يزيد همومنا التي تلحق بنا حتى الى المحكمة!». ومن باب الدعابة وترطيب الأجواء الساخنة، ترد الجاجة أم حسن على السيدة الأربعينية قائلة: «ان شاء الله اذا طلعت بنتي افراج (أي، إذا طلقت من زوجها) رح اعملك اشتراك كهرباء لمدة شهر على حسابي!».
يزداد عدد الوافدين الى الغرفة، وتزداد معهم حماوة الجلسة. أصبح بعض الجالسين أصدقاء مؤقتين لـ«الزميل» في الهمّ والمشكلة، نظراً للالتقاء المتكرر في الغرفة عينها. ويتبادل البعض الآخر أطراف الحديث الرامي الى بسط القضية العالقة في أدراج المحكمة، والتي قد يصادف أن يكون المستمع «خبيراً» في تلك المشكلة تحديداً، فيقدم إلى صاحبها الحلول ويشرح له نقاط ضعف «الخصم».. مجاناً.
الشيطان يُلعن بين اللحظة والأخرى على ألسنة الجالسين، في معرض المواساة من جهة، أو التنصل من سبب المصيبة من جهة ثانية. بيد أن اللعنة، في بعض الأحيان، قد تطال «تلك الساعة» أيضاً!
لا نزال في «غرفة الانتظار». ورغم الأحاديث النابعة من اشكالات قيد الحل أو البت، يقف زائر «محايد» مشدوهاً مما يدور من حوله. هو أتى مع خطيبته بغرض «اثبات زواج». تبتسم الفتاة من طلب الزوج، الذي طالبها بالانتظار خارجاً.. «عوضاً عن حضور جلسات الأتراح». عود على بدء، يعقب خروج «العروس والعريس».
تنهي فاطمة من سرد قصتها. يقطب رجل ثلاثيني حاجبيه، مستغرباً النبرة الحماسية والهجومية التي طغت على حديث السيدة. فالقصة ـ على حد وصفه ـ عادية: منذ حوالى ثلاث سنوات، عقدت ابنة فاطمة التي تبلغ (حالياً) العشرين من عمرها، قرانها على رجل لبناني مقيم في ألمانيا. مضت الأيام وارتأت الفتاة أنها لا تناسب هذا الشاب ولن تستطيع العيش معه تحت سقف واحد.
وعليه، قررت الابنة مصارحة الأهل الذين، أصلاً، كان لهم التأثير الأكبر، حسبما تقول الأم، في إقناعها ـ عنوةً ـ بالقبول به عريساً. عند مصارحتها لهم، عمد كل من الأم والأب الى الاستفسار عن السبب المفاجئ في طلب الانفصال، فكان جوابها أن الشاب كاذب ومخادع و«نسونجي».
وأخيراً، نزل الأب عند رغبة ابنته، ورفع دعوى طلاق على «خطيب» ابنته في المحكمة الجعفرية: «أما بيت القصيد فهو أننا لا نزال، منذ حينه حتى الآن، نخرج من جلسة وندخل في أخرى بلا جدوى. فالرجل مصر على عدم القبول بالطلاق الا بعد دفعنا مبلغ 20 ألف دولار له.. هكذا، من دون سبب!»، تردف فاطمة.
يستأذن الرجل «الممتعض» من الراوية، أي فاطمة، للحديث عن قصته «التي ستجعلك تضحكين على ما أسلفت». لحظات صمت تسود الغرفة. يهز «أبو أحمد» رأسه، ويسهب في سرد قصته الغريبة، معلناً في مقدمة الحديث: «هل تعلمون ما هو سبب مجيئي الى هنا؟»، لا جواب. هنيهات ويبدأ الرجل النحيل بالاجابة على سؤاله، لافتاً الى أنه توجه الى المحكمة بغرض.. طلب فتوى تسمح له بقتل شقيقه!
تتغير نغمة «أبو أحمد» في الحديث لتصبح ـ مع ظهور علامات الاستغراب على سحنات الموجودين ـ درامية متسارعة الوتيرة، إذ يشير إلى أن شقيقه الأكبر قد «سلبني كل ما أملك من مال وعقارات، بالاضافة الى تحريض أبنائي عليّ، ما أدى الى قطع صلتهم بي!». يكمل الرجل قصته: «وذلك بعدما وكلته بكل ما أملك، نظراً لاقامتي في الخارج (السعودية)، معتقداً أنه يشغّل المال مثلما طلبت منه. بيد أن المفاجأة تجلت في أنه كان يحوّل المال الى رصيده الخاص، وفي النهاية، نكر علي كل دولار أخذه مني، وأقنع أولادي بأنني خسرت المال في البورصة!».
لا يلبث «المغدور» ينتهي من «خاتمة» قصته، حتى تبدأ الغمغمات تسود ألسنة الرجال والنساء لهنيهة، ثم تصب في نهاية المطاف عند صاحب القضية، مع نصائح مشتركة تمحورت حول «صلي ع النبي» و«هدّي البال.. المال بيجي وبيروح». إلا أن الخلاصة التي ارتأى الرجل استخلاصها والوقوف عندها هي «ان شاء الله خير، سأذهب الآن، لكنني سأعود لأطلب الفتوى، فأخي مصيره القتل.. لا شيء غير ذلك!».
القاضي الشيخ علي المولى هو رئيس محكمة الشياح. يجلس خلف طاولته مستقبلاً «الضيوف»، من مختلف الأعمار، بهدوء ورحابة صدر.
يستغرب القاضي، المعروف بحنكته وحسن خلقه بين القضاة، الكلام الذي يدور بين الناس عن العوائق والمصاعب التي تواجههم في المحاكم الشرعية، عازياً رأيه إلى أن «المستمع» يأخذ النتيجة فقط، من دون معرفة تفاصيل القضية من الطرفين.
استغرابه ينسحب أيضاً على ترجيح الناس لكفة الطلاق على الزواج، إذ أن «الزواج أكثر من الطلاق، وهذا أمر محتوم». وتتباين «مشاكل الناس بين النفقة، المسكن، حصر ارث، وطلاق»، يقول القاضي.

Script executed in 0.19419598579407