هبة دنش
سندا الى المواد 193، 194 و195 من أحكام قانون المخدرات والمؤثرات العقلية، للنيابة العامة في حال توقيف شخص بجرم تعاطي المخدرات ان تحيله بموافقته على لجنة الادمان كي يخضع للعلاج بحيث لا يتم التوقيف الاحتياطي للمتعاطي في حال اقتصار الملاحقة على هذا الجرم. لكن والد ذوالفقار الحسيني، تعب، وأراد تركه موقوفا، حتى يتحرر من الإدمان.
المجرم "الضحية"
يلمع الدمع في عينيه. يدرك الوالد المنهار، أن الدواء أقوى من علاقتهما، حتى من الحب. منذ أيام توقف عن اخذ الدواء الموصى له كعلاج، خرج من المنزل، استقل دراجته النارية، وبدون اي تخطيط قام بنشل حقيبة تعود لسيدة ستينية في إحدى شوارع بيروت. في المقابل، سارعت إحدى صفحات مواقع التواصل الإجتماعي "وينينه الدولة" بنشر فيديو عملية النشل، اسم السارق، مواليده، ومن اي منطقة (البقاع)، في إشارة الى أن أهل هذه المنطقة لهم صيتا سيئا لحق بمنطقة البقاع تاريخيا، موصوفون بمثل هذه العمليات. انهالت التعليقات التي تهاجم البقاع، وعائلة المعتدي على السيدة الستينية. عادةً ما نتصور المدمنين، أن لديهم آباء غائبين أو آباء وأمهات مشغولين بأنفسهم. ولكن حتى الأب "غير المثالي"، يريد الأفضل لأطفاله.
موقع "بنت جبيل" وفي اليوم العالمي لمكافحة المخدرات أجرى مقابلة خاصة مع محمد الحسيني والد ذوالفقار. بدوره وجه الحسيني رسالة مؤثرة وقاسية لكل من اطلق اللوم على تربيته لابنه "من يحاول شتمي او شتم ذو الفقار أو والدته على ما فعله، فيلدلني على دواء نهائي، اعطيه اياه بيدي، وانا ساتولى تغسيله ودفنه". ليعود ويقول "لا شيء مهم، ولا حتى 18 أو 25 عاما من الحب الأبوي والتضحية، مستمر في مساعدته للعلاج من الادمان حتى مماتي". ربما كان الأب يسأل نفسه منذ شهور أو سنوات، هل هذه هي المرة التي يتلقى فيها ابني العلاج ويغير حياته؟ ثم يتناوب السؤال الشرير: هل هذا هو الوقت الذي سيغادر فيه المنزل، ويتناول جرعة زائدة، ويتلقى "المكالمة"؟ يغلق هاتفه الخلوي. ويخبر والدته لقد فقدنا ابننا المدمن مرة أخرى (للابد)؟. في لحظة غضب، اتصل والد ذوالفقار بالدرك وطلب منهم أصحابه، لكنه تراجع "لا يمكننا اختيار أطفالنا سواء كانوا يعيشون أو يموتون".
أشياء أخرى يمكن أن تمنع والد ذوالفقار من أن يكون بجانب ابنه اليوم، قد يكون الإرهاق والغضب والوعود المكسورة. هذه هي بعض من أصعب الصراعات الداخلية التي يواجهها والد ذوالفقار. بالنسبة لأب مثل محمد الحسيني، أو جعفر، أو حسان، فإن الخوف من فقدان فلذة كبدهم نهائيا هو السبب. في الواقع، لا تسير الحياة بسلاسة "وفقا للخطة"، ابناؤنا معرّضون لكل شيء، "الإدمان ليس مجرد علاج فردي، ولا يمكن تجاهله، على كافة الأطراف والمعنيين والمتضررين التحرك للعب دورهم في مكافحة هذه الآفة"، يعلق الحسيني.
اين قصّرت الدولة؟
بحسب حديث الحسيني الدولة "ما قصرت". "الدولة ما قصرت انها ما عالجت، هي مقصرة من الاساس، مفلتة هذا الوضع وغير معتنية به". ذهب الحسيني بإبنه الى مراكز العلاج، وكان مستفيدا، لكن ذوالفقار لم يك لديه الرغبة والارادة. التقصير الفعلي للدولة كان واضحا في اجواء المنطقة الذي يعيش فيها ذوالفقار. لا يوجد مكافحة جدية لتجار المخدرات والمروجين لها. تغيب المعالجة من المصدر. والشباب بقيوا ضحية للمخدرات، ضحية اهمال الدولة التي لم تعرف حتى الآن التعاطي مع ملف الاتجار بالمخدرات وانتشاره، ويسأل "اين القوى الامنية، اين المداهمات، ما هو واجب الدولة في هذا الملف".
يرى والد ذوالفقار أن الشباب اللبناني متروك. يسعى الأهل الى إخراج اولادهم من هذه "اللعنة"، يصرفون عليهم جنى عمرهم، "صحيح أن المراكز لا تقصّر في تقديم العلاج، وتتعاطف اكثر من جهة في الدولة للعلاج"، لكنها لم تذهب حتى اليوم في العلاج الى اساس المشكلة؛ تجارة المخدرات، تجويف منابعها، وملاحقة التجار الكبار والذين هم "مافيا"، وربما يتشاركون بمنافع التجارة هذه مع أطراف سياسية. يقول الحسيني "لا نعلم من هم، ولا نريد ان نتهم احدا، ولكن لهؤلاء تغطية من الدولة والأحزاب وتغطية من العشائر والعائلات"، ربما من هنا يبدأ تقصير الدولة، بعدم المعالجة من المصدر، يقول الوالد محمد الحسيني "يهتمون بكنس الشوارع وتنظيفها عند كل مناسبة او احتفال، لكنهم لم يسعوا يوما الى استثمار الإنسان أو محاربة الفساد وتجاره.. ليه تاركين المخدرات فلتانة!". بالإضافة الى ان البيئة الموجودة ليس لها رعاية من الدولة، ليس هناك رقابة على شيء؛ تفلت امني، المواطن يعيش على هواه، بيئة منسية، متروكة، مهملة، وسط غياب للبدائل؛ لا زراعات بديلة في البقاع، لا فرص عمل بديلة، الحدود السائبة، والجامعات التي يفترض أن تكون مكاناً لتحصيل العلم، باتت أكثر الأماكن التي راج فيها استخدام المواد المخدرة.. كل الطرق مسدودة لخروج هؤلاء من هذه الآفة، لذلك كله "الدولة مقصرة في هذا المجال".
رحلة ذوالفقار
"عندما يقول أحدنا الحقيقة، يسهل علينا جميعا أن نفتح قلوبنا على آلامهم". ماذا حدث لابني الوسيم؟ لعائلتي؟ أي خطأ ارتكبت؟ اين الله؟. تلك هي الأسئلة الصعبة التي سادت رحلة محمد الحسيني بعد إدمان ولده ذوالفقار للمخدرات وفشل كل محاولاته منذ عام 2009 الى اليوم نحو الشفاء. يلي الوعود انتكاسات ومشاعر العار تليها المزيد من الوعود.
قبل أن يصبح ذوالفقار مدمنا على الحبوب المخدرة، كان شابا جميلا، محبا للحياة وخفيف الظل، سافر مع والده الى كوبا، فرنسا، إيران، إسبانيا. يستعرض والد ذوالفقار بحسرة والم صور ابنه الشاب اليافع قبل الادمان، ثم يقلّب "المواجع" والذكريات، صورة صورة، مستعرضا كل الفواتير التي دفعها في رحلة العلاج، المراكز الخاصة والتابعة لوزارة الصحة التي مكث فيها ذوالفقار، اياما وشهورا، لكن المجتمع الموبوء الذي يعيش فيه غارق في المخدرات، يدفعه في كل مرة للغرق في جحيم الادمان،
"انا من قلبي وربي بدعي على كل مسؤول كان يحمل مسؤولية الوضع الامني، وقت بدأت المخدرات بالانتشار في لبنان وقصّر في ملاحقة أو تغطية المروجين".
لم يعش ذوالفقار في الشوارع، لم يسرق. لكن بجعبة الوالد صورا كثيرة تقول أنه كذلك. صور تكسير اساس المنزل وزجاج سيارته الخاصة، محاضر ضبط، اسقاطات حق، وتقارير طبية تفيد بحالة ذوالفقار النفسية والعصبية. يروي الحسيني قصصا عن محاولات اذلال قام بها ذوالفقار له عن قصد او عن غير قصد. كان والد ذو الفقار يعرف قوة الإدمان بعد المرة السابقة التي أصبح فيها إبنه نظيفا ثم عاد وانتكس. يقول "كانت أوهام" أن إبني أراد الحياة أكثر من المخدرات، أو أنه "قد وصل إلى الحضيض" وعبر جسرا علاجيا، حتى اتمكن، من الاسترخاء. آباء المدمنين على المخدرات يتعلمون عدم الاسترخاء.
أصبح انشغاله مع ذو الفقار إدمان في حد ذاته. لكنه كأب، قام بالبحث الغريزي في كل علاج ومركز قد ينقذ وحيده. ربما كان قد سمع قصص العديد من الشباب الذين انتكسوا أثناء الانتظار في مراكز العلاج. غالبا ما ينتظرون وينتظرون، ثم تفوز الرغبة الشديدة. في بعض الأحيان لا تنتهي هذه القصص نهاية سعيدة.
المراكز المتوفرة في لبنان
قصة ذوالفقار تتحرك صعودا وهبوطا "بعيدا عن الانتهاء". منذ شهر خرج من احدى مراكز العلاج، فرح الوالد بالعودة الجديدة لولده وامل أن تكون الجولة الاخيرة. الى اليوم، مرت عشر سنوات، لحظة امسك محمد الحسيني بيد ذوالققار وقصد كل مراكز العلاج في لبنان، من الشمال الى الجنوب وبيروت.
من مركز جويا الرعائي في جنوب لبنان الى مستشفى الشفاء في خلدة (التابعين لحزب الله)، مستشفى السان شارل، الجامعة الأميركية، مستشفى "الفنار" (التي اقفلت مؤخرا)، مستشفى دير الصليب، أم النور، جمعية الشبيبة لمكافحة المخدرات JCD، مركز "سكون"، جمعية "سيدر ريهاب" والعشرات من الأطباء المختصين.. . تخطى المبلغ الذي تكبّده الحسيني حتى اليوم على وحيده نحو 250 الف دولار، عدا الوقت والجهد وحرق الأعصاب. "سأسعى طوال الوقت لانقاذه، واتمنى موته قبل موتي، حتى لا يضيع أكثر". مراكز العلاج من المخدرات في لبنان، مكلفة، ومساهمة الدولة اللبنانية في علاج المدمنين، مجتزأة. يتحمل أهل المريض الجزء الأكبر من النفقات فيما تتكفل وزارة الصحة بالجزء الآخر، يقول والد ذوالفقار بعض المراكز يطلبون تأمين طبي بقيمة 500 دولار (مركز أم النور). رغم أن ذوالفقار لم يصمد بأم النور سوى 4 ايام فهو الافضل بنظر والده "عملهم واسلوبهم العلاجي متخصص، ويستخدمون تقنيات متطوّرة جداً"، لكن إبنه رفض البقاء. في مستشفى راشد السكري دفع والد ذوالفقار جزء من العلاج فيما تتكفل مديرية قوى الامن الداخلي بدفع الجزء المتبقي. انجح مركز بالنسبة لعلاج ذوالفقار جمعية الشبيية لمكافحة المخدرات JCD "استوعبوه"، المربين في هذه الجمعية هم شباب مثل ذوالفقار، عانوا من الادمان، وتعالجوا وأصبحوا مربّين. في كل المراحل الذي مر بها، كان ذوالفقار يسيطر على الطبيب ويفرض عليه الدواء الذي يريد، "ما حدا اثّر بذوالفقار الا مركز الشبيبة JCD". وحده مركز الإدمان اللبناني "سكون"، يقدم علاجا للمرضى الخارجيين ويوفر الوقاية والعلاج لمتعاطي المخدرات. يكفي أن يدفع المريض الرسم، ثم يذهب إلى وزارة الصحة للحصول على الدواء. لا يكتفي والد ذوالفقار بالعلاج الطبي والنفسي، يقول "قصدت شيخ روحاني ايضا".
مسؤولية الجميع
تطوّر الإدمان في لبنان بمعدلات تنذر بالخطر، لم تبلغ المشكلة يوما الحدّ والحجم الذي بلغتهما اليوم، والامر الى تفاقم. نسبة قليلة جداً من الاشخاص الذين يستخدمون المخدرات يحصلون على العلاجات اللازمة. وقد تواجه أجيالنا واقعا مروّعاً خلال السنوات العشر القادمة.
"حرب" المخدّرات ليست حرب جمعية دون سواها. الوزارات، الأهل، رجال الدين، المدارس والجامعات، المجتمع المدني ووسائل الإعلام، "على الجميع الانخراط في هذا الصراع المضني"، يقول رئيس جمعية "جاد" شبيبة ضد المخدرات جوزيف حواط. تعمد "جاد" اليوم إلى تحويل معظم اهتمامها ومواردها باتّجاه التوعية والتدريب عوضّا عن إعادة التأهيل لأن نشر ثقافة الوقاية بين الشباب هي خير رادع لتفشي هذه الآفة وأكثر فعالية من العلاج. في المقابل تدفع وزارة الصحة العامة وبحسب كلام وزير الصحة السابق حاصابني سنوياً 3 مليارات ليرة لبنانية اي نحو مليوني دولار امريكي لعلاج الادمان (ازالة السموم Detox) من خلال علاج المرضى في اربع مستشفيات تتعاقد معها الوزارة لهذا الغرض، بالاضافة الى تغطية كلفة اعادة التأهيل للمرضى المتعافين في 4 مراكز وجمعيات متخصصة. فيما يبقى الاساس لمكافحة الادمان الاستثمار بالانسان وتحصينه، وبناء دولة لا حدود سائبة فيها ولا مربعات خارجة عن القانون، بل دولة تزرع الامل لدى ابنائها بغد افضل، وتخلق فرص عمل جدية دون الهروب إلى البطالة المقنعة. دولة تتعاطى مع المدمن بصفته مريضا لا مجرما تمد له اليد للخروج من إدمانه والعودة إلى نشاطه الإنساني والاجتماعي.
سيذهب والد ذوالفقار الى السيدة التي قام ذوالفقار بسرقتها، يقول "ساعتذر لها، واقبّل رجليها"، وسيترك ذوالفقار موقوفا. علما أن كل التقارير الطبية، وضعه العقلي والنفسي يمكن أن تبرأ ذوالفقار. ففي 2017 قضت إشارة النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان القاضي غادة عون بتركه لقاء سند إقامة ونقله الى مستشفى رفيق الحريري الحكومي للعلاج، كونه يعاني من امراض عصبية وعقلية. الفضل الكبير في حياة ذوالفقار هو للقاضية غادة عون، "قالت لي هيدا ما بدنا نوقفوا بدنا نعلاجوا"، يذكر الحسيني ايضا قاضي التحقيق الاول نقولا منصور على تعاونه بقضية ابنه، والذي أمر بعدم توقيفه وضرورة متابعة العلاج، لكن يفشل حتى الآن في الوصول الى خاتمة سعيدة. "حاليا ذوالفقار موجود بالسجن، هالمرة، لن اطالب السيدة المعتدى عليها باسقاط الحق، انا بدي اياه يبقى بالحبس". هذا هو الحل الاخير، بالنسبة لوالد ذوالفقار "رح نشوف اي مؤسسة تهتم به كسجين وتقدم له علاج داخل السجن.. انا منهار، لكنني لا اريد اللقاء به الآن، سأنتظر..". يتذكر محمد الحسيني لحظة خرج إبنه آخر مرة من مركز العلاج، رأى الابتسامة التي كانت على وجهه. ظن أنه شفي. لم يعلم أنه بمجرد خروجه، كان هناك من ينتظره، ليقول له خبأت لك الكثير من المخدرات، لم يعرف سبب إبتسامته. اما ذوالفقار كل ما كان يعرفه، أنه بمجرد وصوله إلى المنزل، سيطير عاليا، هيدي سوسة" يقول الحسيني.
في نهاية المطاف، يعيش والد ذوالفقار والكثير من ابناء المدمنين على المخدرات "جحيم". بين الغضب واللوم والحب واليأس، والرغبة في إعالة الابناء، يعيش الآباء مع الكثير من الخوف. أي خطوة خاطئة، سيخسرون أبنائهم. بغض النظر عن ما يقومون به، بغض النظر عن المعاناة والهواجس، يختم الحسيني متحسرا، "ذوالفقار مش حرامي، ليس سيئا، لا تحتقروه، اليوم ابني بكرا ابن غيري، المخدرات هي المجرم.. ذوالفقار ضحية".