كامل جابر
«في 27 نيسان من عام 1936، زارنا الرفيق فرج الله الحلو وكان اسمه المستعار (فريد)، اجتمعنا معه وكنا خمسة شبان: محمود سعيد بزي، حسن سعيد بزي، محمد نجيب بزي، محمد سعيد بزي، أنا (إبراهيم نعيم بزي) وأسسنا الحزب الشيوعي في بنت جبيل».
بهذه الكلمات شرح يوسف خطار الحلو في كتابه «من نافذتي»، كيفية تأسيس الحزب الشيوعي في بلدة بنت جبيل الحدودية على يد المناضل إبراهيم نعيم بزي «أبو نعيم». الرجل الذي لا يزال مسكوناً بالاشتراكية والشيوعية، يطالع كتبها بنهم، على الرغم من أعوامه التي تخطت التسعين؛ مثلما هو مسكون بعشقه لمدينته التي ناضل في صفوف ثائريها ضد احتكار الريجي.
في بيته الذي أعاد بناءه بعد تدمير كليّ في عدوان 2006، يجلس «أبو نعيم» في غرفته الخاصة. ينتظر بين الحين والآخر، قدوم أحدهم. ليس بالضرورة أن يكون من أبناء جيله، لأن ثمة علاقة بينه وبين كثيرين من أهل المدينة، على مختلف أعمارهم وانتماءاتهم، المتطلعين نحوه «كأب روحي». يقلب بين يديه كتاباً على قدر من السماكة؛ نسأله عنه فيرد: «إنه كتاب (بلدي) لرسول حمزاتوف، الشاعر المعروف ابن داغستان الواقعة في القوقاز بجنوبي روسيا». قصة «أبو نعيم» مع الكتب قصة تلازم «ومبدأ، فمن لا يقرأ كمن يكون وجهه من دون عينين» يقول، موضحاً أن جملته هذه مقتبسة عن «مكسيم غوركي أو ربما غوستاف. فأنا قرأت كل كتب غوركي ورواياته، وجبرا إبراهيم جبرا، وكتابات الخوري طانيوس منعم، قرأت وقرأت وقرأت، منذ كنت يافعاً ولا يمكن أن يمر يوم من دون قراءة».
وبالفعل يشهد من جايل بزي أو خاض أمسية من أمسياته الأدبية أن هذا الرجل ثقف نفسه من خلال مطالعاته؛ لذلك هو معجب جداً «بالثوري الأديب محمد دكروب فهو جيد أحبه وأحترمه، أنا أعتبرته مثل مكسيم غوركي الذي كان عتالاً على البور (الميناء) ودكروب سمكري ابن سمكري، وهو من بسطاء الناس العاديين، مثقف وثقافته عالية جداً وكان يكتب في مجلة الطريق».
لم يحمل السلاح يوماً لأنه غير قادر على ارتكاب فعل القتل
بالعودة إلى الوراء، يتذكر بزي التظاهرات التي انطلقت في بنت جبيل مطلع نيسان سنة 1936، ضد احتكار شركة الريجي لزراعة التبغ وهيمنتها على لقمة المزارعين. لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة، لكنه انضم إلى المتظاهرين مطالباً بالإفراج عن المساجين الذين اعتقلوا «قبل أن نعتقل بأيام؛ ففي اليوم الثاني ألقوا القبض عليّ مع شخص اسمه جواد شرارة (رحمه الله)، ونقلونا إلى سجن الرمل في بيروت. بقينا موقفين شهراً كاملاً، وخرجنا بعد تحقيق من المدعي العام الفرنسي في ذاك الوقت، وكان اسمه «مسيو تانباك». اعترفنا بمشاركتنا في التظاهرات ضد شركة الريجي التي تظلم الفلاحين. سألني عن عملي وقلت: أنا تاجر، إذ كنت أبيع ثياباً. ثم سألني: وما علاقتك بالفلاحين ما دمت تاجراً؟ فأجبت أن الفلاحين يشترون من عندي. فثار غضبه وقال بالفرنسية: «Taisez-vous; vous êtes rouges» (أقفل فمك، أنت أحمر) أنا كنت وقتها قد بدأت أميل إلى الشيوعية».
في السجن تعرف إلى شيوعيَّيْن هما: فرج الله حداد وشارل أسطفان. علما بأنه يهوى مطالعة جبران خليل جبران «فصارا يتحدثان عن جبران وأقنعاني بأنه شيوعي. تلبستني هذه الشيوعية، وخصوصاً أن جبران أحد أركانها؛ ثم علمت لاحقاً أن جبران لم يكن شيوعياً ولا مرّ من أمامها، لكنني كنت قد لبست الشيوعية ولبستني».
خرج بزي ورفيقه جواد شرارة من السجن من دون محاكمة، نظراً لصغر سنيهما وبعدها «صرت شيوعياً وصرت أشارك في لقاءات، حتى عرّفوني إلى شخص اسمه فريد، الذي تبيّن لاحقاً أنه فرج الله الحلو. كنا نجتمع معه في بيت عند شارع مار مخايل قرب طريق النهر، في بيت آرتين مادويان. ثم إن الراحل فرج الله الحلو أتى مرتين إلى بنت جبيل، وكان مثالياً في شيوعيته ومتمرّساً جداً فتأثرنا به تأثراً شديداً».
يضيف: «عندما عدت إلى بنت جبيل أسست خلية من 7 أو 8 شيوعيين، كنا نفتعل ضجة طويلة عريضة حول أي قضية من القضايا الوطنية والمطلبية، بحيث يظن من في الخارج عندما يعرف بتحرّك شيوعي ما، أن بنت جبيل كلها شيوعية. هي لا شيوعية ولا شيء، مش مهم العدد، المهم العمل وهو كل شيء. مرات شيوعي واحد يروّب بلداً ومنطقة. أنا لا أزال أؤمن بالشيوعية كفكرة ومبدأ، ولست اليوم تابعاً إلى الاتحاد السوفياتي أو إلى أي دولة أخرى، أنا أتبع لما قرأته من أدب اشتراكي لغورغي وجورج أمادو وكتّاب عديدين».
يجزم أبو نعيم بأنه لم يحمل سلاحاً في يوم من الأيام «لا لا لا، مع العلم أن هناك شيوعيين حملوا السلاح، من عيترون وعيناثا وقرى عدة، ضد إسرائيل. لكنني قلت لنفسي، أنا إن حملت السلاح فسوف أُقتل لأنني لن أقتل أحداً. فعل القتل مرير عندي ولهذا أنا ضد القتل».
تأثر أبو نعيم كثيراً بالأدب الاشتراكي، لذلك يعتبر أن السياسة تتبع للأدب السياسي، المعتمد على ضوابط علمية أيديولوجية. كتب مرات عدة و«ذهبت هذه الكتابات مع الريح»؛ وإن كان قد نشر في مجلة «الطليعة» التي كانت تصدر في سوريا «ثم صارت الطليعة لاحقاً مجلة «الطريق» التي توقفت أخيراً».
أيام الاحتلال الإسرائيلي لمدينة بنت جبيل، بعد عام 1978، غادر أبو نعيم إلى بيروت، «لأنهم بالتأكيد كانوا سيلقون القبض عليّ. وكما تعلم أن إسرائيل دولة فاشية. بقيت مدة في بيروت ولما تخيّبت (انسحبت) إسرائيل عدت. وبقيت فيها حتى العدوان الأخير على لبنان في حرب تموز 2006. بقيت عشرين يوماً محاصراً في الكاراج أنا وزوجتي وبعض الموجودين من الجيران. ماتت زوجتي نتيجة فقدان الطعام والعلاج، وقد شفع لنا أنها ماتت في وقت هدنة، فاستطعنا مغادرة البلدة إلى صيدا مع حفيدتي، وواريناها في الثرى هناك. الحرب كانت صعبة جداً، عشنا تحت القذائف ويئسنا من الحياة إذ بتنا لا نعرف متى تأتينا قذيفة وتقتلنا».
يتحسر أبو نعيم على الأيام الجميلة، أيام النضال في بنت جبيل: «أنا لست رجعياً، لكن بنت جبيل كانت أفضل من اليوم، كانت فيها دينامية وحيوية. كانت ناس قبضايات ولا أروع أو أطيب في ما مضى؛ أتذكر كثيرين منهم مثل جواد شرارة وحسن سليم مصطفى وحسن سعيد بزي ومحمود بزي، والدي وغيرهم. عن جد كانوا جيدين وقبضايات».
القضية الفلسطينية
يتذكر أبو نعيم أن بنت جبيل كانت تمثّل بالنسبة للفلسطينيين همزة وصل لنقل السلاح المهرّب من سوريا. «كنت أعرف شخصاً يهتم بهذا الأمر اسمه فخري مرقة. قرأنا من جملة ما قرأناه قصيدة لإبراهيم طوقان فيها: ويا ظلم فلا دمنا إن دمت سيداً/ ويا نير ما كنا إذا لم تُحطَّمِ. ويا قلم التاريخ سجّل جهادنا/ بنار وظَلّي يا عصور تكلمي»