تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ نقدي عالمي اعتماداً على قوة الدولار، وهو نفوذ قابل للتسييل وفق آلية تأثير سياسي متماسكة... هكذا عندما أقدمت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا مؤخراً، على تحذير السلطات اللبنانية من مغبة التعرض القانوني لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كانت تضع في حسابها قدرة بلادها على تقويض النظام النقدي اللبناني المتميز بهشاشة فائقة.
يهيمن الدولار الأميركي على نسبة تتخطى الـ 90% من معاملات السوق العالمي لصرف العملات الأجنبية، بما يجعل الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الفصل في تلك الأسواق. وقد حرصت الدولة الكبرى على الإستفادة القصوى من فعالية عملتها في السيطرة على العالم دونما حاجة لاستخدام طاقتها العسكرية المتفوقة.. في أغلب الأحيان كان السلاح الاميركي، بما فيه القواعد العسكرية وحاملات الطائرات، والأساطيل الضخمة، مجرد أدوات لحماية ومساندة مراكز القوى المالية المحلية الوثيقة الإرتباط بالقرار المركزي في واشنطن.
كبح المغامرة
أمكن للسلطة النقدية العابرة للحدود أن تمد صانع القرار الأميركي بفائض قوة محرض على خوض النزاعات، وهو ما دفع الأميركين الراغبين في تفادي الذهاب نحو حروب لا تنتهي، الديمقراطيين خاصة، إلى الدعوة للتفكير جدياً بوسائل تحد من إغواء الهيمنة الذي تنطوي عليه ورقتهم الخضراء.
في تقرير نشرته مؤخراً مجلة “ذا نيو ريببلك” الأميركية، زعم الكاتبان ديفيد أدلر ودانيال بيسنر أنه لا يكفي التقليل من الوجود العسكري العالمي الضخم للولايات المتحدة لكبح نزعة المغامرة الإمبريالية الأميركية، وقدرة الرئيس الشخصية على الانخراط فيها من جانب واحد، بل هو يستدعي ايضاً التخفيف من الأهمية المركزية للدولار أمام التجارة والتمويل الدوليين.
ينسجم الزعم مع مقولة المؤرخ ستيورات شريدر حين يؤكد أن “القواعد التي شيدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية موجودة لحماية امتياز الدولار الباهظ”.
من شأن هذا التحليل أن يفسر السلوك الأميركي حيال العديد من الدول، وأن يشرح الأهداف والخلفيات الحقيقية للكثير من الإجراءات العنفية، أدرك بعضها مرحلة الحروب المفتوحة، في أماكن شتى من العالم.
غزوات الدولار
عندما قرر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين تغيير عملة التبادل المعتمدة في النفط العراقي إلى اليورو عوضاً عن الدولار الذي اسماه “عملة الدولة العدو”، وذلك في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2000. بادرت الولايات المتحدة إلى احتلال العراق عام 2003 بزعم امتلاكه لاسلحة محظورة، لتعيد للدولار سلطته على النفط العراقي، ولتربط بنك بغداد المركزي بالإحتياط الفدرالي الأميركي.. وهو الحساب نفسه الذي هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتجميده بعد قرار البرلمان العراقي المطالب بانسحاب القوات الأميركية إثر اغتيال الفريق قاسم سليماني.
العقوبات الأميركية حيال الدول المناوئة للولايات المتحدة، والتهديد بها، كانت عاملاً مؤثراً في الخيارات التي يتعين على الدولة المستهدفة سلوكها، ولم تكن بمجملها خيارات مؤاتية لراعية النظام العالمي الحر.. عام 2016 أدى تهديد وزارة الخزانة الأميركية بمنع روسيا من استخدام نظام التحويلات العالمي- “السويفت” إلى دفع الكرملين نحو إطلاق منظومة اتصالات مالية خاصة أطلق عليها مسمى “السويفت الروسي” ، الأمر الذي حدى بواشنطن للتراجع عن تهديدها. سرعان ما أعلنت إيران التحاقها بالسويفت الروسي في محاولة لمواجهة الحظر المصرفي المفروض عليها أميركياً. وفي حين كان الظن أن السويفت العالمي المحتضن أميركياً، والذي يوفر شبكة تؤمن التواصل بين أكثر من عشرة آلاف مؤسسة مالية تمتد على قرابة المئتي دولة، غير قابل للتقليد، فاجأ رئيس لجنة الاسواق المالية في مجلس الدوما الروسي أناتولي أكساكوف الجميع بالقول أن عدد أعضاء السويفت الروسي تخطى مثيله العالمي.
العقوبات الأميركية حيال الدول المناوئة للولايات المتحدة، والتهديد بها، كانت عاملاً مؤثراً في الخيارات التي يتعين على الدولة المستهدفة سلوكها
لم تتوقف روسيا عند هذا الحد… في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2019 استغل الرئيس التنفيذي شركة “روسنفط”- كبرى شركات النفط الروسية، مشاركته في منتدى اقتصادي استضافته مدينة فيرونا الإيطالية للإعلان عن تحول شركته نحو استخدام اليورو في عقودها عوضاً عن الدولار لتأمين الحماية من العقوبات الأميركية.
عملة التنين
بوسع كل ما سبق أن يمثل رأس جبل الجليد، حيث يبقى التحدي الأبرز الذي يواجه الولايات المتحدة متمحوراً حول قرار الصين اختبار عملتها الرقمية بعد اكثر من خمس سنوات أمضتها في البحث والتطوير. وهي تشكل، برأي الخبراء، قفزة نوعية في البنية المالية العالمية.
يتوقع الكاتب فيصل أحمد أن يكون لليوان الرقمي آثار كبيرة على الاقتصاد والشعب الصينيين نظرا لأنه يساعد على خفض التكاليف وتسهيل عمليات الدفع، كما سيتمكن “بنك الشعب” من مراقبة المدفوعات والتجاوزات غير المشروعة.
ويوضح أحمد في تقرير نشره موقع “مودرن دبلوماسي” الأميركي أن العملة الصينية الجديدة ستتيح الفرصة أمام الصين لتجنب أي عقوبات تفرضها عليها الولايات المتحدة، وللحد من مفاعيل البنية التحتية لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك السائدة حالياً والتي تقضي بتوجيه كل المعاملات بالدولار على مستوى العالم عبر الولايات المتحدة، ما يمنحها قدرة فعلية على تجميد المعاملات من جانب واحد.
اختبار العملة الرقمية الصينية بات يشكل تهديدا للهيمنة المالية الأميركية، نظرا لأنها تقدم بديلا للدولار
يؤول ما سبق إلى القول أن اختبار العملة الرقمية الصينية بات يشكل تهديدا للهيمنة المالية الأميركية، نظرا لأنها تقدم بديلا للدولار، وإذا تم تبنيها بنجاح فستساهم هذه العملة الرقمية في إبعاد الأسواق المالية العالمية عن النظام المرتكز على الدولار، وستساعد أيضا حكومة بكين على معالجة أي اضطرابات بالعملة العالمية التي تحركها دوافع سياسية.
ما يستحق التوقف عنده أن العملة الرقمية تختلف عن المدفوعات غير النقدية، على غرار تلك التي تدفع من خلال بطاقات الائتمان أو التطبيقات. يمكن عبرها تحقق التسوية مباشرة على عكس المعاملات غير النقدية التي تلعب فيها البنوك دور الوسيط. وهي تساهم في إيجاد سبلا للتواصل بين الأجهزة التي تؤمن تبادل المعلومات والمدفوعات، لتلغي بذلك الاعتماد المعتاد على البنوك.
تستطيع الصين أيضا استخدام اليوان الرقمي في أنشطة متنوعة انطلاقا من برنامج التحفيز والمساعدات التنموية، وصولا إلى التحويلات المالية المباشرة واستثمارات البنية التحتية مثل مبادرة الحزام والطريق. ومن شأن اليوان الرقمي تعزيز قدرة الصين التنافسية على الصعيد العالمي ومركزها القوي في المفاوضات العالمية على حد سواء. وكل ذلك لا ينسجم مع السيطرة الأميركية على شرايين الاقتصاد العالمي.
من المتوقع، كذلك، أن تحظى هذه العملة الرقمية بقبول واسع النطاق في الصين، ويعزى هذا إلى اكتساح الهواتف المحمولة للأسواق في البلاد وتمتعها بسجل إدماج مالي جيد.
هذه العوامل إلى جانب النظام الذي تديره الدولة (أي اليوان الرقمي) ستساهم في توسيع نطاق القاعدة الشعبية لنظام العملة الرقمية، فقد اعتاد السكان المحليون بالفعل على استخدام تطبيقات مثل “أليباي، وي تشات باي” ومن المرجح أن يعتمدوا هذه العملة الرقمية دون تردد.
ومن شأن اليوان الرقمي أن يساعد الحكومة على تحويل أي أموال صندوق إغاثة أو برامج تحفيز مباشرة للتغلب على التأثير السلبي لكوفيد-19 على سلاسل التوريد وسبل العيش. إلى جانب ذلك، تسعى الحكومة إلى صرف رواتب الموظفين الحكوميين بواسطة هذه العملة الرقمية.
آفاق واعدة
في الوقت الحالي، يحتل اليوان جزءا صغيرا جدا من المدفوعات والاحتياطيات العالمية، ولكن كون الصين أكبر مُصدّر في العالم، من المرجح أن تدفع من أجل الاستخدام العالمي لليوان الرقمي بين شركائها التجاريين وفي مبادرة الحزام والطريق.
يشار إلى أنه في ظل استمرار وباء كورونا، أصبحت البنية التحتية المالية الأميركية مكشوفة. وهي عانت مشاكل تنفيذية على مستوى تحويل أموال صندوق الإغاثة إلى المستفيدين منها. في حين أن اعتماد العملة الرقمية من شأنه أن يقدم منظورا جديدا لتدخلات السياسة العامة في الأوقات العصيبة، ومن المحتمل أن يؤثر بروز اليوان الرقمي على معظم الاقتصادات، الكبيرة منها والصغيرة، وذلك بسبب اعتمادها التاريخي على النظام المالي الذي يرتكز على الدولار.
يقودنا ذلك إلى القول أنه بات من الضروري أن تستعد الدول للتوازن مع الخطوة الصينية من خلال التحول إلى المدفوعات الرقمية، واختراق القواعد الشعبية، والاندماج المالي، والحد تدريجيا من اعتمادها على الدولار.
المصدر: 180post.com