لا يغيب عن بال المربي جمال حجازي لحظة واحدة يوم طلب من والدته "بقعة" بطم، والبقعة هي قطعة عجين يوضع عليها ثمر البطم، الذي لم يكن متوفرا عند والدته، فارسلته الى الحاجة ام نجيب في احد احياء بلدته عيترون الجنوبية، وحملته طاسة"وعاء نحاسي "مملوءة بالبرغل لمقايضتها بالبطم العصفوري.
ام نجيب هي واحدة من النساء اللواتي كن يقايضن البطم بانواع عديدة من الحبوب قبل اكثر من خمسة عقود ،كما كان الحال نفسه بالنسبة لاحد ابناء بلدة كفرا الذي كان يتنقل بين القرى على حماره مصطحبا ثمار الزعرور لمقايضته باي شي يصلح للاكل، ومقايضة القمح بالحلويات "المشبك"في سوق بنت جبيل.
مع تفاقم الازمة المعيشية في لبنان ،بدأت تستحضر تلك المحطات ،التي يحفظها الجنوبيون عن ضهر قلب ،واليوم هناك دعوة لمقايضة لم تكن بالبال ،حيث نشرت الناشطة الاجتماعية والاستاذة المحاضرة تانيا الباشا على صفحتها الفايسبوكية ، بسبب الظروف الراهنة وانقطاع "الكاش " لدى البعض، يمكن مقايضة هذه الكتب مقابل حصة غذائية تحتوي على حليب ،جبنة مطبوخة معلبات وغيرها ،فالبطون الفارغة لا تفهم ما تقرأ!
تعيد هذه المنشورات وغيرها على وسائل التواصل الاجتماعي والفيديوهات المستوردة والمحلية ومنها رجل هندي يعطي صفاف شعر راس بصل بدل اتعابه وآخر يقول طلعت بالسرفيس اعطيت السائق "خسة "بدل النقود ، نبش الذاكرة وزمن "الديكيشي" وهي كلمة سريانية تعني المقايضة الذي استمرت قائمة في تبادل السلع الاساسية وغالبيتها من الحبوب والخضار وايضا "ديكيشة " المواشي في الاسواق الى عقود قصيرة خلت، نظرا الى شح النقود بين ايادي كثرة من الناس، الذين كانوا يعتمدون التبادل في المحاصيل لتأمين معيشتهم او عمل موسمي في الحصاد "والنوطرة"مقابل كمية من القمح.
لا ينسى "النبيل" وهو صاحب اقدم محل للحلويات في صور ويعاني بشدة بفعل ارتفاع الاسعار، أيام كان يذهب من صور الى سوق جويا التي تبعد عشرين كيلو مترا تقريبا لمقايضة المعمول بالبيض البلدي الزراعي، وايضا يوم كانت تدفعه والدته الى سوق القصابين الشهير في صور لشراء نصف وقية لحمة مفرومة للمحشي ،كان يضعها القصاب بورقة ملفوف خارجية التي عادة ما كان يزيلها اصحاب محلات الخضار ورميها لتصبح الملفوفة اكثر نضارة .
قد يكون مبالغا بالامر الحديث عن عودة ايام المقايضة ،لكن ما هو ملموس في كل يوم من تدهور وفقدان القدرة الشرائية لليرة وغياب فرص العمل وتكدس الاموال بحوزة فئة قليلة من الناس، يبشر بعودة نمط جديد لحياة غالبية المواطنين الذين يتخلون شيئا فشيئا عن الكماليات والترف وعقلنة الواقع المستجد والتحول نحو الزراعة.
وصلت "القلة" وهي الحاجة والعوز الشديدين في اواخر الحرب العالمية الثانية في الربع الاول من اربعينات القرن الماضي ،الى اعتماد الناس في جزء من قوتهم على السكر الاحمر ،وكان كل فرد يحصل على كيلو فقط مقابل ثمن مادي ،ووصل عندها سعر كيلو السكر والارز والطحين الى ليرة لبنانية،كانت بمثابة اجر يومي يتلقاه العاملون في مد شبكة سكة الحديد في راس الناقورة التي وصلت فلسطين بلبنان عام 1942،يوم كان الغلاء والاحتكار يشبه يومنا هذا.
لا يغيب عن بال الحاج موسى سعد 84 عاما ابن بلدة طيردبا الذي كان عمره اكثر من خمس سنوات بقليل حينها، مشهد مكان شراء السكر في منزل مختار البلدة آنذاك محمد خليل حمود الذي كان يؤمن بثمن من حكومة الانتداب الفرنسي ،فكان السكر وجبة للفقراء يضاف الى رغيف خبز مع بعض الماء.
في تلك الفترة يتذكر كيف هرع ابناء القرى الى احد مقرات الانتداب الفرنسي "حكومة الجنرال فيشي" الذي دمرته قوات الحلفاء في منطقة "السكرة" عند مدخل قرية برج رحال .
وكان لا يزال فيه كميات من السكر موضبة باكياس كبيرة تركها الجنود الفرنسيون الذين كانوا يعانون من الجوع، فجمع الرجال والنساء وما تيسر حمله على الاكتاف من سكر وسمنة وتقاسموها فيما بينهم ،بعدما قطعوا كيلومترات سيرا على الاقدام ،أضافة الى شوادر الجنود "اماكن المبيت" وهي من القماش وحاكوا منها سراويل لهم ولاولادهم والواح زينكو استعملت بوابات للبيوت.
يذكر الحاج محمد 88 عاما "اسم مستعار" كيف أضطر احد ابناء قريته قرب صور بيع احد العقارات التي ورثها عن والده لهدف علاج احد اشقائه الذي لم يمهله المرض.
يقول:كان ذلك في منتصف الستينات من القرن الماضي وكان الاخير يملك اكثر من خمسماية دونم من الاراضي الزراعية في قريته ،لكن النقود كانت عزيزة جدا وغير متوفرة ،وقد يمكن ان نسمع كثير من هذه القصص قريبا.
وان ملاكا آخر من نفس القرية قايض ثلاثين دونما من الاراضي الغير مغروسة بعشرة رؤوس من الغنم،كونها تشكل مصدر عيش،فيما كانت الارض تحتاج الى نقود لاستصلاحها.
حسين سعد - بنت جبيل.أورغ