كتب د. محمد حسين بزي
عشية ذكرى رحيلك الـ 43 أحبّ أن أبلغك أيّها المعلّم أنّنا لسنا بخير ..
فإنّنا لا نزال أمّة يحكمها حكام مُسْتَحْمَرون، رغم أنّ كتابك "النباهة والاستحمار" تكاد الأمة تحفظه عن ظهر قلب.. لكن لم يتغيّر فينا شيء.
فلسطين طارت عن الخريطة، الصهيونية أصبحت وجهة نظر فكرية في التزاحم نحو التطبيع، وأمريكا تزداد غطرسة ونهبًا في أمتنا بإرادة ومباركة حكامنا، الفكر في أدنى درجات انحطاطه، الأخلاق شبه معدومة، الخيانة كنز أشباه الرجال الذي لا يفنى، الدين الأصيل "دين محمد" أصبح غريبًا عن المسلمين، الخُرافة تعبد من دون الله، القرآن لا يزال كتابًا يُقرأ على الموتى في الجنائز وما يليها من تقبّل التعازي، والله يحارب وحده إلّا مع ثلة قليلة، محمد لا يزال يدعو إلى التوحيد وقريش تنتهك حرمته كلّ يوم بألف صنم وصنم، علي لا يزال يصرخ في آبار نخيل المدينة؛ وليس من صدى سوى طعنات الأصحاب، فاطمة لا تزال في بيتها الطيني حزينة غريبة، الحسن لا يزال يتجرّع سمّ الأعراب، الحسين لا يزال يستنصر لإقامة العدل وسيوف أمّة جدّه تقطعه إربًا إربا ..!
مجاعة الفكر لا تزال تقتات على أجساد زرادشت وبوذا وكونفوشيوس والحلّاج والسُّهروردي وجمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) وإقبال اللاهوري وطاغور ..!
ماذا أقول لك؟ وعن ماذا أخبرك بعد؟!!
الطفل الذي انتظرته كي يأتي إلى قبرك ويأخذ منه حفنة تراب ويصنع منه مزمارًا ليعزف كي يوقظ الشعوب النائمة، أتى، وصنع مزماره من ترابك كما تمنيت، ولكن ما أن بدأ بالعزف حتى اعتقلته البوتقة الدينية بتهمة تحريم الموسيقى، اعتقلوه ولم يتجاوز العاشرة من عمره !
لم يجدوا له تهمة أفضل، أو أنبل، والآن يقبع في سجن آمون منذ 33 سنة، صار كهلًا، وقد مرض بداء التوحّد عدا أمراض العصر الأخرى، لم يحترموا مرضه، ولم يرحموه، فتعايش مع مرضه وظلمهم صابرًا محتسبًا مزماره، وقبل أيام سرّب إليّ رسالة من سجنه يطلب فيها مني ما طلبت أنت منه.. لننتظر طفلًا جديدًا، قد يأتي بعد 43 سنة، آه.. ما هذا التداعي؟!، فأنت أيضًا أيّها المعلّم قد قتلوك وأنت في الـ 43 سنة من عمرك، وهذا يعني أنّهم سيقتلون الطفل الذي صار كهلًا في سجنه هذه السنة .. ربّاه، كلّ من يدعو لإيقاظ الشعوب النائمة يُقتل ولو بعد 43 سنة..!
أنا قد تجاوزت الـ 43 سنة، لكن ألم الحياة في سبيل الله أصعب من ألم الموت في سبيله.
الآن ماذا أصنع أيها المعلّم؟ هل أنفّذ وصية هذا الطفل العازف الذي صار كهلًا، وسيقتل هذه السنة؟ حسنًا، سأعتبر صمتك علامة رضى، كصمت الياسمين الدمشقي حيث ترقد الآن، الياسمين يفوح ويبوح بالسرّ ليلًا، وهذه ليلة قتلك، فكيف لو كان هذا الياسمين دمشقيًا؛ فإنّه حتمًا سيفوح كي تصل رائحته إلى الصحراء، وإلى مزينان ومشهد الرضا من آل محمد حيث قبور أجدادك العظام.
أيّها المعلّم، يا علي شريعتي ، اغفر لي هذه الأخبار عن هذه الأمّة، لكنّها الحقيقة التي تحتاج إلى كتاب آخر تحت عنوان "النباهة والاستكلاب" لأنّ الحمير قد أوسعونا تظلّمًا.. والسلام
بيروت/ ليلة 19/6/2020
*مدير عام دار الأمير / ناشر أعمال شريعتي