رأى مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، في رسالة وجهها الى اللبنانيين لمناسبة حلول رأس السنه الهجرية "إن التهديد الوجودي للبنان الوطن والدولة، يقتضي أمورا عاجلة: تحقيق دولي لتحديد المسؤوليات واستعادة الثقة، الإقبال على تغيير جذري في السلطة، كما هي إرادة الشباب، بل كل الناس، قيام رئيس الجمهورية بإجراء استشارات نيابية ملزمة وعاجلة، لتسمية رئيس حكومة، يكلف بتشكيل حكومة حيادية إنقاذية، ويكون من مهماتها، إنفاذ الحكم الذي أصدرته المحكمة الدولية، في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري".
ولفت المفتي دريان الى انه "قد لا نحتاج إلى الحياد، إذا بنينا دولة قوية وعادلة ، ومعززة بالوحدة والتماسك الداخلي"، معتبرا انه "إذا بقينا على انقسامنا ولم نبن دولة، فلن يفيدنا أي حياد حتما ، ولن نخرج من نفق التمزق والتشرذم والحقد والعداء".
نص الرسالة
وجاء في نص رسالة المفتي:
"الحمد لله النافذ أمره ، الدائم إحسانه ، الشديد بطشه وقهره ، الواجب حمده وشكره، لا يرجى إلا نفعه ، ولا يخشى إلا ضره، فتبارك اسمه ، وجل ذكره،أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثنى عليه، ونستغفره من جميع الذنوب ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائل في محكم كتابه العزيز : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ، والقائل تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ، والقائل سبحانه : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أوذي في الله فصبر ، وهاجر في سبيل الله فظفر وانتصر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ، الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون.
أما بعد :
أيها المسلمون :
ذكرى الهجرة النبوية الشريفة ، عزيزة على قلب كل مسلم، وعلى قلب كل طالب للحق، ومناضل في سبيله. ففي العام الرابع عشر للبعثة، الموافق للعام ستمائة واثنين وعشرين للميلاد ، وفي مثل هذه الأيام ، اضطر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، للخروج من بيته ، ومسقط رأسه بمكة أم القرى ، مهاجرا إلى يثرب ، التي سماها المدينة ، بعد أن استقر فيها.
لماذا هاجر صلوات الله وسلامه عليه لأنه بعد اثني عشر عاما من الدعوة إلى توحيد الله، بين بني قومه، عانى كما عانى الذين اتبعوا دعوته الاضطهاد والتجويع والقتل، وفقد الحرية بحيث ما عاد ممكنا له ولأتباعه الاستمرار، إن أرادوا الإيمان والكرامة والحرية. هؤلاء المؤمنون الثابتون على دينهم ويقينهم، يقول عنهم القرآن الكريم : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ويقول أيضا: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.
هؤلاء الصادقون الذين تركوا ديارهم واموالهم ، وأحيانا أسرهم ، وقبل هجرة نبيهم وبعدها ، لقوا ترحابا واحتضانا في دار الهجرة، وبقيادة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، أنشأوا مجتمعا، وأقاموا دولة، ثم عادوا بعد ثماني سنوات لتصحيح الأوضاع في مكة.
أيها المسلمون :
لا أعز على الإنسان من وطنه وأرضه وداره ، فهذه الأمور الثلاثة، هي رموز الإنسانية والكرامة والحرية والحياة . وقد جاء في القرآن الكريم أن علائق المؤمنين بسائر بني البشر على اختلاف الدين والجنسية والثقافة ، ينبغي أن تقوم على البر والقسط، باستثناء حالتين: الاضطهاد الديني، والإخراج من الديار . قال تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون.
أيها اللبنانيون :
قليلة هي الحواضر التي قاست وقاسى أهلها ما قاسته بيروت. ومفهوم أن يكره الأعداء حياتها المزدهرة ، وحريتها ، ووداعة أهلها ، وسلامهم ، فيحاولون الاعتداء عليها . أما أن يأتي العدوان من المتنعمين بخيراتها ، ومن سلطاتها ، بالإهمال أحيانا، وبالتواطؤ والتعمد أحيانا أخرى . فهذا هو الأمر المستنكر الذي لا تقبله النفوس الكريمة ، ولا مبدئيات المواطنة وأعرافها .
نعم ، إن يوم الرابع من آب ، هو يوم أسود في تاريخ بيروت ولبنان والمشرق . فخراب المرفأ ، وخراب بيروت ، ومقتل المئات ، وجرح الآلاف ، تجعلنا جميعا أمام جريمة كبرى من جرائم العصر . فكيف يمكن للمرء أن يقف صامتا أو لا مباليا أمام هول هذه الجريمة الكارثة ؟ كيف يمكن للبناني ألا ينفجر وهو يرى بام عينه تدمير عاصمته بفعل إهمال أو عدم مسؤولية من سلمهم قيادة البلاد ، ومنحهم ثقته ، كيف لمن يتولى القيادة أن يتهرب من المسؤولية ، أو يعفي نفسه من المسؤولية ، بحجة التراتبية الإدارية ، ويبقى المسؤولون في مراكزهم ، ولا يبادرون خجلا إلى ترك مواقعهم طوعا لمن يستحق ، امتثالا لإرادة الشعب ؟ كيف يمكنهم أن يواجهوا ببرودة أعين المفجوعين والمتألمين.
ما هذا الغياب التام لشعور الطبقة الحاكمة ، بما ألم بمواطنيهم من مآس وأوجاع ؟ ما هذا التمسك المرضي بالسلطة ، مع ثبوت العجز وعدم الاكتراث بما سببوا للبنان وللبنانيين ، من آلام وعذابات ؟ لقد أعمتهم السلطة عن رؤية الحق ، وعن الإحساس بالناس ، الذين أفقدوهم آمالهم وأحلامهم ، وحرموهم من كل ما يجعلهم يتمسكون بالحياة ، حرموهم من فلذات أكبادهم ، من أطفالهم، من أمهاتهم، من أسماعهم وأبصارهم ، وحولوا حياتهم رمادا وسوادا وجحيما.
وبعد، هم لا يريدون الاستعانة بالتحقيق الدولي، بحجة الحفاظ على السيادة الوطنية، وهم هم من أسقطوا سيادة لبنان ، ونتساءل : أهم أصحاب السيادة أم الشعب هو صاحب السيادة ، أليس الشعب هو من فوضهم ممارسة السيادة وأوكلهم بثقته ممارستها ، ألا يستحق اللبنانيون معرفة الحقيقة ، للأسف ما من حقيقة في لبنان ، ما من مساءلة ، ما من محاسبة.
لقد بلغ اليأس باللبنانيين مبلغه ، إلى حد البحث اليائس عن حل لمأساتهم ، أو صيغة أو نظام ، أو تأمين الحد الأدنى من الاستقرار والأمان والعيش الكريم ، وقبل أن يأخذهم القهر والذل والخوف إلى المضي قدما في ذهولهم ، مستجيرين بالنار وسوء المصير والاندفاع إلى المجهول، يستفيقون مذعورين من هول المصاب ويتساءلون: أين الدولة ؟ أين المفر ؟ ونحن لم نبن وطنا ولا دولة ، فكيف يكون حياد وما من ولاء للوطن ؟ وكيف يكون حياد في غياب دولة ونظام عام ، واحترام للدستور ، وتطبيق للقوانين، واحترام للسيادة، وتمسك بالاستقلال ؟ أنبني من الخوف سياجا، ومن القهر حصنا ، أو نرجو من الضعف قوة؟ إنها مسالة إيمان بالحق والعدالة ، حق الإنسان أن يعيش حرا كريما ، وحق الشعب بالأمان والاستقلال ، وتقرير المصير .
قد لا نحتاج إلى الحياد إذا بنينا دولة قوية وعادلة ، ومعززة بالوحدة والتماسك الداخلي ، وبالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ومتوجة بالعيش المشترك الآمن ، فهذه الدولة تغنينا عن كل حياد ، لأنها تشكل سياجا وطنيا قويا ، وحماية كافية . أما إذا بقينا على انقسامنا ولم نبن دولة، فلن يفيدنا أي حياد حتما ، ولن نخرج من نفق التمزق والتشرذم والحقد والعداء .
أيها اللبنانيون :
ما قيمة الحياد إذا كان المسؤول لا يقيم وزنا لمفهوم الاستقلال والسيادة ، ولا يدرك معنى أو مضمونا لمفهوم الدولة والحكم الرشيد والحرية ، ولا يعرف كيف يجنب بلاده وشعبه التورط في الحروب والانقسامات والنزاعات، والصراعات الفئوية، والمحلية، والإقليمية والدولية ، فيستدرج الدول إلى ساحاته ومدنه ومؤسساته ، ويستجدي القوى الإقليمية والكبرى ، التدخل في شؤونه ، بدل أن يعمل على التزام دستور بلاده، واحترام القوانين، والقيام بكل ما يؤدي إلى تعزيز وحدة الشعب، وأمن المواطنين ، واحترام المؤسسات ، وإغناء الوفاق الداخلي، وتدعيم قواعد العيش المشترك ، وبناء الدولة ، واحترام قيم الحق والعدالة والمساواة ، وتأكيد أهمية الولاء الوطني . حتى مبدأ النأي بالنفس ، وهو الوجه السياسي لنظام الحياد القانوني ، الذي تم التوافق عليه ، وتحول التزاما في البيان الوزاري للحكومة ، انقلبنا عليه ، ولم نحسن التعامل معه ، فعدنا لنطرح الحياد بديلا ، حيث ضاقت الخيارات ، تحت ضغط المآسي والنكبات ، والانفجار الكبير.
لقد ضيقتم على الناس الخناق ، ولم تؤمنوا لهم الأمن أو الحماية، ولم تجعلوهم يوما يشعرون بالطمأنينة أو الاستقرار، واستعملتموهم وقودا في خلافاتكم ونزاعاتكم وصراعاتكم ، بكل أنواعها ، الطائفية والمذهبية والمناطقية ، طمعا بالسلطة والمال والهيمنة ، فألجأتموهم إلى الهروب لصيغ وحلول لا تشكل بحد ذاتها أمانا، أو سياجا، أو ضمانا ، أو حماية ، فماذا أنتم فاعلون ؟
إن هذه الكارثة ليست أولى كوارث هذه السلطة العاجزة والفاسدة ، إلى حدود الإجرام ، فقد سبق اغتيال بيروت، انهيار اقتصادي ومالي ونقدي ، هدد عيش اللبنانيين، وقضى على سمعة لبنان ، وعلى كل ما أنجزه اللبنانييون ، خلال المئة عام الأولى من عمر دولة لبنان.
إن هذا التهديد الوجودي للبنان الوطن والدولة، يقتضي أمورا عاجلة :
أولا : تحقيق دولي ، لتحديد المسؤوليات واستعادة الثقة.
ثانيا : الإقبال على تغيير جذري في السلطة ، كما هي إرادة الشباب، بل كل الناس، وربما كان المعبر الأسلم لذلك، الانتخابات المبكرة ، التي ينبغي العمل على توفير شروط حريتها ونزاهتها، وأولها قانون انتخاب ملائم.
ثالثا : قيام رئيس الجمهورية ، بإجراء استشارات نيابية ملزمة وعاجلة ، لتسمية رئيس حكومة ، يكلف بتشكيل حكومة حيادية إنقاذية ، مكونة من اختصاصيين ، لتتعامل مع آثار الكارثة ، وتعيد الإعمار، ولتعمل مع المجتمع الدولي ، لوقف الانهيار الاقتصادي، ولتهيئ البلاد لحاضر آخر مختلف عما نزل بها وبالعباد.
وأصل أخيرا إلى الأمر الرابع لأقول: إن من مهمات حكومة التغيير العتيدة ، إنفاذ الحكم الذي أصدرته المحكمة الدولية، في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري يوم أمس . وهي محكمة دولية من أجل إحقاق العدالة ، وإنقاذ لبنان من ضياع السيادة ، ومن استيلاء الجريمة السياسية. إن اغتيال الرئيس رفيق الحريري والشهداء الآخرين، يقتضي السعي للخلاص من السلاح المتفلت ، أو لا يستقيم عيش في وطن ودولة.
نحن أهل الدين ، لا نعمل في الشأن السياسي، بل في الشأن الوطني العام. وعندما لا يقوم السياسيون بواجباتهم، فمن يحمي مصالح الناس في الحياة والممتلكات ، والسيادة وحكم القانون؟
أيها المسلمون؛ أيها اللبنانييون :
في السنوات الأولى من البعثة والهجرة إلى المدينة المنورة، كان القرآن الكريم ، وكانت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تدعو الناس للهجرة إليها . ثم نهض المهاجرون والأنصار، لاستعادة مكة والكعبة ، واستعادة ديارهم ومساكنهم التي أخرجوا منها بالقوة . وما إن تمت عملية الاستعادة ، التي سماها القرآن الكريم فتحا، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية) .
نعم أيها اللبنانيون ؛ نعم أيها البيروتيون : إنكم بصدد استعادة مدينتكم ووطنكم ودولتكم ، ولذا لا هجرة بعد اليوم . أسمع من سنوات، وقبل كارثة بيروت بزمن طويل، شكواكم وإرادتكم الهجرة ، كما فعلتم وتفعلون من مئة وخمسين عاما . ولا أوفى من المهاجر اللبناني تجاه وطنه وشعبه . لكننا اليوم محتاجون إلى كل السواعد ، وكل الشباب، لاستعادة بيروت ، واستعادة الشرعية الوطنية ، والشرعية الإنسانية ، وبالروح والجسد.
يا أهل بيروت : لقد جاء إليكم أشقاؤكم العرب ، وكل المجتمع الدولي لمساعدتكم في الإغاثة والإعمار ، واستعادة حياتكم ووطنكم ودولتكم ، فشكرا لكل الدول الشقيقة والصديقة التي سارعت لإغاثة لبنان واللبنانيين .
يا أهل بيروت ، مسيحيين ومسلمين، نحن معا منذ مئات السنين، على عهود الخير والود، والرحابة والانفتاح ، وصناعة الجديد والمتقدم ، ونريد أن نبقى على ذلك ، لقد تغير العالم ، وما عادت الهجرة هروبا ، لكننا الآن محتاجون للبقاء معا أكثر من أي وقت مضى.
حفظنا الله تعالى وحفظ لبناننا من كل سوء. وكل عام وأنتم بخير".