أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

أفاعي الاستقلال

الثلاثاء 24 تشرين الثاني , 2009 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 15,553 زائر

أفاعي الاستقلال

عندما أقدم مغاوير الجيش اللبناني خلال العرض العسكري لمناسبة الذكرى الـ66 للاستقلال على أكل رؤوس الأفاعي أمام المنصة الرئيسية، ضحك الرؤساء الثلاثة وبقية المسؤولين وممثلو الطوائف اللبنانية، مع أن المشهد لم يكن مضحكاً أبداً، ومع أن المناسبة لم تكن تستدعي سوى الجدية والوقار وربما بعض الخوف من هؤلاء الرجال الذين لو اخطأ احدهم لكان البلد يواجه اليوم كارثة وطنية كبرى.. او حتى حرباً أهلية.
بدا أن تلك اللحظة الدرامية من العرض كانت ذروة الاحتفال الذي تميز هذا العام عن جميع الأعوام الـ65 الماضية، بالكثير من الهزل والضحك من قبل كبار المسؤولين الذين كانوا بين الحين والآخر يصطنعون العبوس لكنهم تبادلوا المزاح والنكات وكأنهم في مسرحية كوميدية، وتركوا انطباعاً لا يخطئ بأنهم لا يأخذون الذكرى على محمل الجد، ولا يخافون من المغاوير الذين اختاروا المنصة الرئيسية بالتحديد، بدلاً من الجمهور او الكاميرات، لكي يقدموا عرضهم الغني بالعبر والدلالات، ولكي يقطعوا رؤوس الأفاعي التي يقال إن عددها بلغ 18.
لكن العرض العسكري الذي كاد يسقط في تهمة الترفيه عن الجالسين في المنصة الرئيسية، أدى الكثير من أغراضه وساهم في إشاعة الاعتقاد بأن الجيش الذي ورث الاستقلال من الانتداب الفرنسي، ما زال موجوداً ومسلحاً ومنظماً وجاهزاً.. اما بقية الورثة فإن البحث عنهم ما زال مستمراً، وهو لم يتوقف طوال العقود الستة الماضية، وربما لن يتوقف طوال العقود الستة المقبلة، من دون الإحالة الى مسؤولية الفرنسيين الذين تركوا دولة يصعب بناؤها، ومجتمعاً يستحيل توحيده، ومواطناً لم يشعر يوماً بأنه شخصية مستقلة، تتمتع بالحد الأدنى من العصبية الوطنية التي يشعر بها المواطن في اي بلد في العالم.
المناسبة، وبعض صفحات التاريخ المدرسي، لا يمكن ان تساهم في بلورة تلك الشخصية اللبنانية التي لم توفق على مدى السنوات الـ65 الماضية في اختراع عدو أو خصم خارجي مشترك. كانت فرنسا مستعدة في بعض الفترات للتبرع بهذا الدور على امل ان تنتج عصبية وطنية ما في بلاد الارز . لكنها سرعان ما يئست واستسلمت مثلها مثل الكثير من الدول التي كانت ولا تزال تشعر بالحيرة والذهول لتلك الشروخ العميقة في الجسد اللبناني، غير القابلة للعلاج.
هل هو الإحساس المفرط بالاستقلال الذي يجعل من كل طائفة او مذهب او تيار او شارع، دولة مكتملة النمو والبناء، ام انه الشعور المسبق بأن الاستقلال كان مجرد خدعة، لا يمكن ان تنطلي على أي مواطن ذكي يحفظ المقولة الخالدة التي يرددها العالم اجمع: ليس هناك لبناني واحد يمكن أن يبيع وطنه، إذا كان بإمكانه أن يعرضه للإيجار.. ما دام عقده مع الارض غير مسجل، وما دام عقده مع المواطن الآخر غير موقع.
يحتاج مغاوير الجيش الى أكثر بكثير من أكل الأفاعي لكي يقنعوا الجمهور أنه وطن مستقل، او على الأقل لكي يخيفوا اولئك الذين لا يداهمهم الخوف ابداً.

Script executed in 0.18694400787354