أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

أبو حيدر «آخر الكندرجية» في النبطية يبيع عدته

السبت 05 كانون الأول , 2009 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,538 زائر

أبو حيدر «آخر الكندرجية» في النبطية يبيع عدته
غادر ابو حيدر مهنة صانع الاحذية وتفرغ للعيش بين جدارن منزل كل شيء فيه قديم. يرى «ان القديم افضل بكثير». يعيش بين ذكريات عزه وشهرته الواسعة حيث كان يقصده التجار من كل لبنان لشراء بضاعته.
يفاخر بمجده الذي عاشه طيلة ممارسته المهنة «شغلتي نظيفة وكنت الأول بمصلحتي» . اليوم يعز على أبي حيدر مغادرة مهنته بعدما لم «يعد منها نفع». ارتفعت أسعار الجلود وخف الطلب على صنع الحذاء فتوقف عن العمل وباع عدته بمئة وخمسين ألف ليرة لبنانية. العدة التي رافقته طيلة خمسة وستين عاماً مضت.
ومع مغادرة العم محمد سلوم مهتنه، بصناعة الأحذية، تندثر المهنة في النبطية ولا يبقى منها الا ذكريات واحاديث يتداولها سكان الحي الذي كان ايام الخمسينيات والستينيات «سوق الكندرجية».
يترك صانع الاحذية الوحيد المهنة مرغماً، «لا أحد يرغب بصنع حذاء عربي»، يطغى الحذاء الجاهز على الاستهلاك. في قلبه غصة كبيرة ترتسم على وجهه «مهنتي ما عادت تطعميني خبز، الناس ما بقى بدها الجلد الاصلي بتفضل الجلد المشمع»، يقول العم محمد، من دون أن ينسى تأثير الوضع الاقتصادي للناس وكذلك العادات الاستهلاكية. يسرح بأفكاره إلى أيام العز إلى بداياته مع المهنة : «كان عمري ثماني سنوات عندما أخذني أبي إلى خاله صانع الأحذية الجلدية». بضحكة كبيرة يستقبلك ليتحدث عن صنعته الذي احبها وعشقها. صنعة تحولت إلى رفيقته الوحيدة بعد وفاة زوجته. تلمع عيناه وهو يروي كيف كان «الأول» ومقصد التجار من طرابلس وعكار صيدا وصور «كان الطلب كبيراً على الحذاء العربي لمتانته، عكس احذية هذه الأيام اللي بتهتري بسرعة» يقولها وهو يفاخر بما كانت تجني يداه. «كنت أنجز دزينة أحذية بالنهار» ورحلة حرفته تبدأ من «شراء الجلود» . يفصل الجلد وفق هنداس كل وجبة (والهنداس هو الشكل) و«نرسلها إلى المكنة لتلزيقها ثم نضعها على القالب بعدها نضع لها ضبان ونعل». يبقى الحذاء على النعل إلى اليوم التالي «نشلحه من النعل ويكون الصباط جاهزاً».
يستعيد روايته كمن لا يمل من التحدث عن عشقه. يعود العم محمد ليحمل «السكين، يقص الجلد يأخذ قالباً خشبياً يفصّل عليه الحذاء، ويدق المسامير»، هكذا يشرح كيف كان يعمل لأكثر من ست ساعات في النهار من دون كلل. يقول انه سيعاود العمل ما ان تتحسن صحته « أتسلى بها فهي ملاذي الوحيد». يضع العم محمد يده على وجه تتآكله تجاعيد العمر، ليقول ان «هيدي المهنة ما فيها تعب، كانت لها شهرة ايام الزمان، فيها فن وبداهة»، وسرعان ما يصمت وينظر خلف زجاج النافذة التي اكلها غبار السنين ويضحك «رزق الله ع ايام زمان كانت الناس عايشة بمهد عيسى»، «كنت لا اهدأ ولا اتوقف عن العمل من كل قرى النبطية يقصدني الاهالي وخاصة الفلاحين». يحب الفلاحون أحذيته «لأنها امتن بكثير ولا تهترئ، وإذا أصابها شيء نصلحه ونضع له نصف نعل»، كما يقول. يعود العم محمد بالذاكرة الى الحذاء الأول الذي صنعه «وحاز إعجاب معلمي». بعدها بدأت شهرته وذاع صيت شطارته فقصده الناس من طرابلس وبيروت «حتى نواب المدينة آنذاك كانوا يقصدونني ولكل حذاء سعر « العادي بخمسة قروش والمنيح بليرة او بليرتين،رزق الله ع ايام زمان».
يتحسر العم محمد لأنه لم يرزق بـ«خلفة» او ولد يورثه المصلحة «لم أجد من يرغب في تعلمها لانها لم تعد تجدي نفعا ولا تطعم خبزا»، واقع حدا به إلى التخلي عن روحه، يقولها العم محمد وهو يتنهد.
توقف صانع الاحذية عن العمل في العام الماضي «خف الطلب ومرضت»، مرض لا يمنع رغبته في استئناف مزاولتها. باع العدة إلى هاوي جمع أدوات قديمة في حي السرايا»، لكنه يذهب يوماً بعد آخر يتفقدها، «لها مكانة خاصة» في نفسه يقول. كانت مصدر رزقه الوحيد، وتعلقه الكبير بها يكمن وراء إحساسه بأنه أعطاها الكثير لكنها «تخلت» عنه اليوم.

Script executed in 0.19137597084045