فلم يمضي أسـبوعٌ واحد بعد على قدوم فصل الربيع، والمتوقع أن يحضر معه كل الخير... حتى بدأ يأخذ "الحبايب" واحداً تلوَ الآخر.أخذهم ليجتمعوا في مكانٍ بعيدٍ عن أنظارنا. ولم تفتح الأزهار أعينها وتخضرّ أوراقها شـوقا لمن يمدحها، بل شـمخت وأريجها المنبعث يشـقّ القلب لتودّع عدداً من أبناء المدينة وتقلّهم إلى مثواهم الأخير. إلى مقبرة بنت جبيل، التي ما لبثث أن فتحت أبوابها حتى اسـتقبلت ضيوفا قد قرروا أن يسـكنوا في جوارها. فمنهم من كان يمرّ بها يوميا ليلقي السـلام على سـكّانها، ومنهم من أتى إليها مشتاقاً الى حبيب أوغالٍ قد سـكنها منذ زمن! هكذا انتهت رحلتهم في الغربة حيث عادوا إلى التراب الذي اسـتنشـقوا منه روح الحياة محمّلين على الأكفّ، مرصّعين بأكاليل زهورٍ شـاحبة والدموع تنهمر من أعين المحبيبن من حولهم.
ختم شـهر آذار نهايته في هذا العام بفاجعة تدوّن على صفحات مغتربي بنت جبيل الذين كتبت أسـماؤهم في التاريخ. هؤلاء هم المغتربون الذين عادوا ليصبحوا جزءاً من الذاكرة. هؤلاء الذين غادروا وطنهم سـعياً وراء لقمة العيش والعلم كي يعودوا يوماً ما لمنفعة وطنهم وأبنائه. ولكن القدر غدر بهم ولم يميز بين كبيرٍ في السّـنّ وشـابّ. فلقد تعددت الأسـباب والموت واحد! ففي هذا الحين وأينما تواجدت في بلاد الإغتراب، تجد أهالي بلدة بنت جبيل يجولون من منزلٍ إلى آخر ثم إلى المسجد يعزّون ويأخذون بالخاطر ويواسون بعضهم بعضاً وكأن "المصيبة جمعتهم".
من لم يسـمع بالمرحوم الحاج جميل عقيل جابر بزي؟ الذي كان من وجهاء البلدة في بنت جبيل وما زال يُحكى عن قيمه وأخلاقه الحميدة ومواقفه وكرمه وعطائه. فمن ينسـى ذلك الرجل صاحب كلمة الحق وقد عاش عمره تقيا وسائرا على الصراط المستقيم. واليوم اختار الحاج جميل جابر بزي أن يجاوره نجله الثاني من البكر-عبدالله، الأول قد توفاه الله في شـبابه، الحاج يوسف جابر بزي. رحمك الله يا عمي.. لقد اختارك الله لتلتحق بأهلك وأقاربك، فهم بانتظار وصولك إليهم ونسـأل الله أن يتغمد روحك برحمته الواسـعة. فعندما يأتي الموت لا يسـتطيع أحداً أن يمهله ولو رويداً. وهذا ما جرى، نمت مودّعا وكأنك شـعرت بالسـفر الطويل وتركت أحبابك يذرفون الدموع على رحيلك وفقدك من بينهم. ومن رحمة الله سـبحانه وتعالى أنه غادر هذه الدنيا وهو بجوار أقرب الأقربين. فنسـأل الله لمن بعده الصبر والسـلوان.
أما تلك الأم التي اسـتيقظت صباحاً على فاجعة تفتّت الصخر، وتتأجج براكين الدموع في آفاقنا حرقة على المصيبة التي حلّت بها. فما بال تلك الأم؟ أُم العريس، علي يوسف بيضون، ابن التاسـعة والعشرين سنة. أمه المفجوعة بشـبابه، هاجرت إلى الولايات المتحدة مع عائلتها لكي يعملوا ويأمّنوا مسـتقبل أولادهم. ولكن القدر يغلب الأماني. فلم تسـنح الحياة بالفرصة لعلّي، البارّ بوالديه، الإبن المرضي، الأخ الحنون، العريس الذي قرر أن يسـتقر ويكمل نصف دينه.. لم تمهله الحياة بأيامٍ قليلة لاسـتقبال عروسـه. لقد انقلبت الموازين وقرر أن يذهب إليها بجسـده وروحه ليُزفّ عريساً على عرش الفناء. فلقد قتل عليّ برصاص الغدر والعنف. رحل بدون سـابق إنذار تاركاً وراءه أهله وأصحابه ومن حولهم غارقين بصدمة الفاجعة.. نسـأل الله أن يلهمهم الصبر والسـلوان.
نتقدم بأسـمى آيات العزاء لأهالي بنت جبيل عموما وعائلات المرحومين خصوصا بفقدهم أحبابهم سـائلين المولى عز وجل أن يتغمدهم بواسـع رحمته ويدخلهم فسـيح جناته.