في سلوك سمير جعجع خلال الفترة الأخيرة، شيء من هذا الوصف. وآخر «سلسلة» له في هذا المجال، مبادراته الفورية والتلقائية إلى رفع دعوى ضد كل مَن يقول عنه إنه «مجرم».
من المفهوم والمنطقي والطبيعي، أن يكون رد فعل جعجع كذلك. فالمسألة بالنسبة إليه ـــــ كما يفترض أن تكون بالنسبة إلى أي إنسان مسؤول ـــــ ترتبط بحسابات الكرامة الشخصية، وبجزاء ما هو ماضيه، وحسابات ما يفترض أن يكون مستقبلاً له. وفي كل هذه الاعتبارات، يمكن جعجع أن يفكر في سرّه، وأن يردّد في العلن، أنه لم يفعل غير خوض الحرب، تماماً كما خاضها الآخرون، كل الآخرين من دون استثناء.
و«في الحرب، كما في الحرب»، مثلما يقول المثل الفرنسي، فكيف إذا كانت حرباً «مدنية»، حيث لا شيء من «المدنية»، كما تقول قاعدة اللغة نفسها.
غير أن المسألة بالنسبة إلى جعجع، مشوبة بعوامل عدة، لا بد من تفصيلها، بغاية الوصول إلى حل.
العامل الأول يتعلق بالشخص نفسه. ذلك أنه على مدى أربعة أعوام، تعرّض سمير جعجع لسلسلة محاكمات، لا يمكن وصفها في أي حال من الأحوال بالمحاكمات العادلة. وذلك وفق توصيف كل المنظمات الدولية الناشطة في مجال حسن العدالة وحقوق الإنسان.
غير أن اللافت أن جعجع نفسه أقدم في تلك المحاكمات على تقديم اعترافات بارتكابات، تنقله من حقه في خوض الحرب (Jus ad bellum)، إلى مخالفته قوانين الحرب (Jus in bello)، مثل اعترافه بعبوة في الدكوانة أعدّت لعملية اغتيال، وخصوصاً اعترافه بتفجير مطرانية زحلة، مع إعطائه تفاصيل دقيقة عن القرار والدوافع. وهو ما قيل يومها إنه أراد منه تبيان أن «الآلية» نفسها لم تحصل في حالة تفجير كنيسة الذوق، ما يعني أنه ليس مسؤولاً عنها. فكانت النتيجة معاكسة في انطباعات البعض، إذ تولّد استنتاج أن مَن يفجّر مطرانية، يفجّر كنيسة.
وفي العامل الشخصي نفسه، بدا أيضاً أن جعجع أضاع الفرصة التاريخية والذهبية التي أعطيت له يوم خروجه من السجن. فبدل أن يغتنم تلك اللحظة الفريدة الوحيدة واليتيمة، ليغفر ويستغفر، وليعلن أننا كلنا أخطأنا... فوّت السانحة التي لن تعود.
لم يكتفِ جعجع بذلك الهدر، بل أضاف إليه هفوتين: الأولى محاولة استلحاق متأخرة جداً، وصف فيها «الأخطاء» بأنها جاءت في سياق «الواجب الوطني»، والثانية إصرار على محاكاة سِيَر القدّيسين والأنبياء...
العامل الثاني الذي يشوب المسألة نفسها هو قانوني قضائي. وهو ما يمكن اختصاره بملاحظتين. الأولى أنه أثناء محاكمات جعجع، اعتمد هو في ملفاته المفتوحة الخمسة، استراتيجية الدفاع على أساس البراءة. وفيما كان مذهلاً فعلاً في مرافعاته، كان أحد وكلائه الأساسيين، وهو الراحل إدمون نعيم، يترافع بناءً على استراتيجية مطالبة المحكمة بتطبيق «قانون الحرب»، مع ما لهذا الخيار من دلالات منطقية وجزائية. وفيما عمد جعجع مراراً إلى «التخلي» عن بعض وكلائه، بدا غريباً اعترافه اللاحق بجميل الدكتور نعيم، حتى «مكافأته» باختياره نائباً عن دائرة بعبدا ـــــ عاليه سنة 2005، في ظل التحالف الرباعي الشهير.
أما الملاحظة الثانية، فكانت إصرار فريق عمله على ضم ملف تفجير كنيسة الذوق إلى قانون العفو عنه الصادر في تموز 2005، علماً بأن جعجع لم يكن يحتاج إلى ذلك ليخرج من سجنه، وهو ما حال دون إعادة المحاكمة في تلك الجريمة، التي لم تكن تحتاج إلى أكثر من مثول أحد المحكومين غيابياً فيها. علماً بأن القضية المذكورة بدأت تكتسب بعداً جديداً، بعد خروج جميل السيّد إلى التحدي في حيثياتها. هو مَن لمّحت مرافعات وكلاء المتهمين أثناء المحاكمة، إلى تورّطه في «تركيبها»، إن لم يكن أكثر من «التركيب».
يبقى عامل ثالث، هو في السياسة. ذلك أن جعجع يتصرف بانتقائية واضحة حيال اتهامات الآخرين له، وكأن انتفاضه لكرامة «البراءة» محكوم باعتبارات السياسة. كيف؟ يكفي مثال واحد: في 6 آذار 1998، يوم الاجتماع الشهير بين رفيق الحريري ومجلس المطارنة الموارنة في بكركي، أثار أصحاب السيادة قضية إطلاق سراح جعجع. أجاب الحريري بالحرف: «لكنه مجرم. هكذا يقول القضاء».
ساد صمت، قبل أن يكسره أحد الأساقفة بالقول: لكن لماذا لم يحاكم سواه؟ فرد الحريري: «لنتفق إذاً، تريدون إطلاق سراحه، أم سجن الباقين؟»، فضحك الجميع وطوي الموضوع...
هل مَن يقدر على إسداء النصيحة نفسها إلى المعني، بأن يضحك في كل مرة، ويطوي الموضوع؟