الذين يقتبسون من العدو اسلوب «فرض الأمر الواقع»
لماذا لم يقتبسوا منه سياسة نقد الذات؟
مثلما ان الاسرائيليين لا يؤمنون بوجود مستحيل في «قاموس» تعاملهم مع العرب، بحيث يأملون في يوم من الايام ان تتحقق امانيهم باعتراف عربي شامل بالكيان الصهيوني والتطبيع العربي الكامل معهم، فان قطاعات لا يستهان بها من النخب والجماهير العربية (وبعض الانظمة العربية) لا تؤمن بوجود مستحيل في قاموس صراعها مع الكيان الصهيوني - وخاصة بعد حرب تموز التي تقترب ذكراها السنوية الاولى - بحيث يأملون بل ويكادون يؤمنون ان بالامكان استرداد ارض فلسطينهم وكامل حقوقهم المغتصبة بما في ذلك الحق الذي كفلته قرارات الامم المتحدة والقاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى وطنهم، كما انهم يرفضون مقولة العجز العربي عن استرداد هذه الحقوق - بحكم تقادم الزمن على ضياعها واغتصابها - ويتساءلون : كيف يجيز الاستيطان الصهيوني لنفسه ان يدعي حقاً له بأرض فلسطين رغم مرور ما يقرب من الفي سنة، ولا يحق للفلسطينيين ورثة الكنعانيين والآراميين الذين كانوا في فلسطين قبل وصول العبرانيين اليها، ودخلوها غزوا وقسراً وابادة واستباحوا اهلها وممتلكاتها واعملوا السيف بأصحابها وسكانها، وحيث يعترفون استناداً الى نصوص توراتية بأن الههم يهوه اجاز لهم قتل اهلها رجالاً ونساء وشيوخا واطفالا وعدم ابقاء من عمرانها حجراً قائماً على حجر واهلاك الحرث والنسل والزرع والضرع فيها. ثم يكررون المأساة نفسها بعد مئات السنين ولا يحق لمن اقتلع من وطنه وارضه وممتلكاته والقي خارجها، ان «يتذكر» ارضه ووطنه رغم انه لم يمض على حرمانها ما يزيد عن عقود قليلة؟
وفي قياس مع الفارق «الفلكي»، وعلى سبيل المقارنة الكاريكاتورية الساخرة فان «نغمة» وضع كل الامور التي يتراءى لاطياف 14 آذار، وكأنها قد تحققت وتم الفروغ منها عبر الاتكاء على القوى الخارجية والاعتقاد بأنها «منجزات هرقلية»، وان ما كانت تتمناه وتطلبه اصبح وراءها ولم يعد امامها بفضل «قوة الدفع الاجنبي»، سوف تكتشف في وقت غير بعيد على الارجح - بل ان بعض اطيافها بدأ يكتشفه الآن بالفعل -! وهو ان ما اقيم على باطل يظل باطلا حتى في نظر اهل الباطل ومغتصبي الحقوق انفسهم! ونظرة عابرة على ما قاله وكتبه رئيس الكنيست الاسرائيلي السابق ابراهيم بورغ يجسد هذه الحقيقة، التي «يتميز» بعض اليهود من ذوي الرأي الجريء على البوح والاعتراف بها. بل ان قطاعات واسعة من يهود اميركا والعالم كانت حتى في «عنفوان الغرور الاسرائيلي» تعتقد بأن هذا الكيان الصهيوني الذي يراد من اجله فرض الهيمنة على المنطقة بأسرها واعادة تشكيلها من جديد لضمان امن هذا الكيان العنصري المتوحش، هو كيان سوف يظل هشاً مهما تسنى له من اسباب القوة الغاشمة ومهما امدته القوى الدولية المحابية له، بأسباب البقاء والحياة، هو آيل في النهاية الى زوال. وهذا ما لم يُقَل محمود احمدي نجاد رئيس الجمهورية الاسلامية في ايران، اكثر منه او يزيد عليه! علماً ان نجاد يقوله من منطلق المشاركة الوجدانية للذين وقع عليهم الظلم جراء قيام هذا الكيان وممارساته. اما العديد من الذين استيقظت ضمائرهم من «قوم موسى» الذين اشار اليهم القرآن الذي احتوت دفّتاه آيات يصعب حصرها حول «مثالب» الممارسات اليهودية الخاطئة، ولكنه أشار الى فئة استثنائية منهم اهتدت الى التمييز بين الحق والباطل كما ورد في احدى الآيات: «ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون»!
واذا كان ديدن الغالبية الساحقة من اليهود، هو عدم السوية في السلوك تجاه غيرهم من الأقوام والشعوب ولم تستطع بعض النخب «المستقيمة» و«العادلة» منهم، ان تغيّر المسار العام الشاذ للغالبية الساحقة منهم، على مرّ العصور، فلقد كان من الطالع السيئ لهم ان تقوم «دولة اسرائيل» على اساس القمع والغصب والمذابح. وقد فات الوقت لأن تعرض على العالم صورة مضيئة لممارساتها تجاه حقوق الانسان، بقطع النظر عن بعض ممارساتها على بني قومها اليهود في الداخل او في اماكن مختلفة من العالم، وخاصة المجتمعات التي رأوا ان من مصلحتهم «اقناعها» بأنهم قد محضوها الولاء واصبح جزءاً عضوياً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، مع الاحتفاظ بالنزعة العنصرية العميقة المتأصلة والتي «يتغذون» عليها، والتي يشعرون انهم اذا تخلوا عنها او فقدوها، كأنهم فقدوا «ميزة» هي وقف عليهم، وهي رغم سلبيتها والوجه القبيح فيها، يعتبرونها ملاذاً لهم، لانهم يرون ان السبل الملتوية واللاآخلاقية، هي التي تضمن لهم «التغلب» على مَن هو اكثر منهم قوة وعدداً وامكانات، وان «الاخلاق» التي يمكن ان تتلخص بمرادف آخر هو الضمير، تشكل عائقاً امام وصولهم الى تحقيق اهدافهم، والتي اذا تم امعان النظر في جذورها وبواعثها، لأدرك الممعن النظر، انها تنطلق من منطلقات الشعور بالعجز وعدم القدرة على مضاهاة من هم اقوى منها، الا بالأساليب الملتوية وغير الطبيعية، التي يتم «اعطاء اجازة طويلة الأمد» عندهم، لما يصحّ ان يطلق عليه اسم «الضمير» او «الاخلاق» وهكذا خرجوا دون ان يخرجهم احد من السوية الانسانية. وهم يطلبون رغم شذوذ مسلكيتهم ان يعاملهم الآخرون ليس معاملة الاسوياء المتساوين مع سائر الاعراق والشعوب، بل اتخذوا لانفسهم صفة التفوق على سائر انواع البشر، عندما لقبوا انفسهم بـ«شعب الله المختار» وبدأوا على هذا الاساس. وشعار «شعب الله المختار» هو بحد ذاته اهانة لسائر الشعوب بحيث لو اردنا «ترجمة صريحة» له في معناه. فانه يعني ان اليهود هم افضل من كل شعوب الارض بل كأنهم يقولون لكل من ليس منهم بأنك اقل منا ونحن افضل منك! وقد «ربطوا» انفسهم بالله مباشرة، فهم لا يقولون انهم عبيد الله او شعب خلقه الله مثل سائر المخلوقات البشرية. بل انه «شعب الله الخاص» الذي اصطفاه لنفسه» وحتى علاقاتهم العامة مع سائر الشعوب اذا بدت في بعض الاحيان، وكأنها قائمة على اسس سوية ومستقيمة، ولكنها في بعض منعطفات العلاقات مع سائر الخلائق، فانهم يقفزون عن طبائعهم الدينية. بل في تراثنا الادبي العربي نجد شاعراً اباحياً، ولكنه كان ماهراً وموهوباً هو ابو نواس وصفهم منذ بضعة عشر قرنا بما هم كانوا ولا يزالون فيه، وهو الوجه الظاهر غير الباطني حيث يسألون الساقي الذي يقدم لهم الصهباء، بعد ان قرأوا على «زناره» انه ليس مسلما وانه لذلك «يبيعهم» الخمر المحرم معاقرتها اسلاميا :
فلما حكى الزنار أن ليس مسلماً ظننا به خيراً فظن بنا شراً
فقلنا : على دين المسيح ابن مريم؟! فاعترض مزوّراً وقال لنا هُجراً
ولكن يهودي يحبك ظاهراً ويضمر في المكنون منه لنا الغدرا !
«ولعل زلزال تموز» الذي استفاق فيه الكثيرون من اليهود «غير المسكونين» بالتعصب الصهيوني الاعمى، الاكثر غلواً في تعصبه اليوم من يهود ذلك الزمن، قد اتاح الفرصة «لمراجعة جزئية» لمجمل السلوك اليهودي الذي لم يأتهم به الانبياء بل ابتدعوه لأنفسهم، وكانوا اذا وجدواً نبياً او مصلحاً يريد ان ينهاهم عما هم فيه، او جاءهم بما لا تهوى انفسهم «فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون» اي انهم كانوا يكذّبون ما جاء به فريق من الانبياء من تعاليم نبيلة، اما اذا جاء انبياء يشعرون ان وجودهم بين ظهرانيهم، من شأنه ان يعطل ما خططوا له من استباحة لكل المحرمات والمقدسات ومثل اخلاقية، فانهم كانوا يعمدون لقتلهم، لانهم من النوع الذي لا يؤمن اصلاً برسالات الانبياء بل انهم من النوع «الذي اتخذ الهه هو اه» كما ورد في آية قرآنية..
ولن نفاجأ غداً، اذا قال لنا بعض من يقرأ هذا الكلام: لقد اختلط علينا الامر عندما كنت تتحدث عن السلوك الاسرائيلي القديم والسلوك الاسرائيلي المُحْدث، عما اذا كنت تعني يهود بني اسرائيل ام يهود الداخل اللبناني والعربي. وهل كنت تتحدث عن سلوك بعض اطياف 14 آذار التي جرّت علينا البلاء فاختلطت منها مياه نهر البارد بالدماء، ام كنت تتحدث عن «قدوتهم» التي دأبوا على الافتداء بها، ليس منذ القرار 1559 فقط الذي سبق ان اعترف «قادة» العدو بأنه كان من «تأليفهم وتلحينهم» بل منذ بدأوا الاقتباس من عصابات شتيرن والارغون والهاغانا، ليست الفاقدة للشرعية فقط بل الفاقدة للسوية البشرية!
بل لعل مما يحزّ في النفس - اذا اجاز المراقب لنفسه الاستطراد في القياس بين سلوكيات قوى 14 آذار - وخاصة تيار المستقبل الذي كنا نريد له ان يكون تياراً فعلياً للمستقبل - وسلوكيات «المنظمات الارهابية الصهيونية» التي قامت على اساسها ومن رحمها دولة اسرائيل، ان بعض من انتسب الى تلك المنظمات والتيارات الصهيونية قد قام «بمراجعة ضميرية» للسلوكيات الصهيونية فانتفض على تلك الممارسات التي بات الكثيرون من الصهاينة انفسهم يعتقدون بأنها ممارسات اذا استمرت واستفحلت سوف تسهم في تقصير عمر «الدولة الفاقدة للشرعية» اصلاً وتقريب اجل زوالها. اما عنصرية قوى 14 آذار «الصاعدة» والتي تزداد استفحالاً، فليست مستعدة لان تراجع «حرفاً» واحداً ليس من نصوص المحكمة ذات الطابع الدولي، والتي اصبحت «محكمة دولية» تبحث عن «زبائن» لها، لم تتوفر بعد حيثيات ومبررات من ترشحهم للمثول امامها، وهل في محاكاتها عندنا لاساليب ميليشيات الامر الواقع الصهيوني الذي فرض على شعب فلسطين وعلى العرب اجمعين، لم يبرز من صفوفها من لديه الجرأة على مراجعة الاخطاء الكارثية التي ارتكبت والتي بعضها من «الكبائر» الذي يصر عليها مرتكبوها، ورغم ان التقاطع بين بعض «مسعوري» قوى 14 آذار مع طروحات الكيان العنصري من حيث «العدو المشترك» الواحد وهو: المقاومة وسوريا وايران، فاننا لا نريد ان نقطع الامل بخروج هذه «القوى» من المستنقع الوبيل الذي القت نفسها فيه وان كان الامل بالعودة الى جادة الصواب بات امراً سرابياً بحيث ينطبق عليها القول: «في الصيف.. (تموز الماضي) ضيعت اللبن» اما اذا كانت تراوح في مواقفها بانتظار «تموز آخر»، فانها تكون كالباحث عن حتفه بظلفه، ونحن نريد لها السلامة والعافية!.. عبر «توبة نصوح» عن ارتكابها الذنوب بحق نفسها قبل ارتكابها بحق الوطن.. اما اذا كانت يائسة من قبول توبتها فاننا نقول لها ما قاله احد الاولياء عندما سئل عن يأس «فلان» من قبول توبته: «والله ان يأسه من الغفران لأشد اغضابا لله من ارتكابه للذنوب العظام»!