أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

علـى هامـش بـلاد «الخـط الأزرق»... فـراغ وقصـور وعسكـر

السبت 22 أيار , 2010 12:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 4,036 زائر

علـى هامـش بـلاد «الخـط الأزرق»... فـراغ وقصـور وعسكـر
تطل الطريق في الناقورة على شاطئ واسع، يبدو، للغرابة، أبعد أفقاً من الأبيض المتوسط نفسه الذي عند سفح بيروت. صور، شبه الجزيرة الصغيرة التي تضج بالحياة، باتت بعيدة عن عاصمة «اليونيفيل» ومقرها الرئيسي العملاق. السوق المرصوفة دكاناً في كتف دكان، لافتاتها وحاجياتها المعروضة لا تعير انتباهاً للبنانيين. هي سوق للعالم الذي يحضر بلغات كثيرة، مرقطاً، ودوداً في الغالب، مساعداً للمجتمعات التي يسميها «محلية»، مراقباً طوال الوقت.
الناقورة ليست هدفاً. كما ليس هدفاً اللوح الحديدي الذي يشبه سهماً يشير جنوباً. يدل إلى «فلسطين» المكتوبة عليه في تحد ذي رمزية سياسية. لا يحتاج قاصد البلد المحتل إلى إشارة سير. يكفيه الالتزام بخط البحر الأزرق. هذا في زمان مختلف بالطبع. بين البلدين خط أزرق آخر، مشكلته منذ العام 2000 أنه ليس مرئياً تماماً، يحتاج إلى خبراء لتبيانه. هذا ما يعجز عنه العاديون من الناس. هؤلاء الذين يعيشون على هوامش البلاد، بالمعنيين، الحرفي والمجازي. فالبلاد، حين قامت، تمركزت في مكان واحد. واعتادت على عدم رؤية أطرافها، لبعد الأخيرة عن عقل لا ينظر ابعد من أرنبة انفه، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، والبلاد رمت عن كاهلها لاحقاً همَّ ارض محتلة، واحتفلت بعودتها ثم نستها. وحين أتت حرب تموز الماحقة، بدا الأمر كأنما انتهى في الرابع عشر من آب. الهامش الذي تتدافع على أرضه بالمناكب، جنسيات العالم، حظه من الدولة قليل. خال من ناسه ومن بلدياته معاً. فإذا دبت انتخابات بلدية واختيارية سُلقت سلقاً، دبت حياة في آخر الاسبوع، وفي يوم الانتخابات بالطبع، لتعود الحال بعدها إلى ما كانت عليه: فراغ إلا من «العسكر» بأنواعه.
غرباً، يصعد هذا النص، قبل الانتخابات البلدية، مبتعداً عن صراعاتها الضئيلة حين تقارن بواقع حال تحتاج إلى أكثر بكثير من بلدية.
يصعد على هامش عشر سنوات من التحرير، وأربع سنوات إلا قليلاً من تلك الحرب التي لا تنسى..
صعبة!
من الناقورة إلى علما الشعب، تمضي الطريق سلسة إلى بلدة بشوارع نظيفة وقصر بلدي يعمل على طلاء إحدى قاعاته جنود وجنديات «اليونيفيل». هذه واحدة من خدمات كثيرة تقدمها هذه القوات للبلدات والقرى في جنوب الليطاني كي تؤكد على حضور لا يقتصر على العسكر بل يتخطاه إلى الانماء. علما الشعب، وغيرها العشرات من قرى جنوب النهر، تسعدها بالطبع خدمات لا تسألها من هذه الدول. هذه البلدة المسيحية أبناؤها إما من المغتربين أو الموظفين، ولديها الكثير من الشبان المنخرطين في وظائف أمّنها وجود «اليونيفيل» المعزز بعد حرب تموز.
في علما الشعب، تقول إحدى السيدات إن الطريق إلى الضهيرة، «صعبة.. صعبة!». نظنها تبالغ، إلى أن نقع في كمين طويل متعرج لا ينتهي من الغبار الأبيض الذي ترفعه إطارات السيارات عن طريق من دون اسفلت، ملآنة بالحفر والحصى. الوصول إلى الضهيرة لن يغير من واقع الحال. لا أحد يفهم كيف يمكن لحفر في شارع قرية رئيسي أن تكون على هذا العمق والانتشار والتنوع في الأشكال.
الشبان الجالسون أمام الملحمة الصغيرة، قد يمضون سحابة نهارهم متفرجين على آليات عسكرية بيضاء حديثة الصنع، بحجم هائل، تمر مرور مركبات فضائية، مثيرة الغبار في تجوالٍ ليس لدى واحدهم أدنى فكرة عن موعد نهايته.
يقرر رجل خمسيني اختصار شكوى الضهيرة بأبيات من العتابا تقول ما معناه انه «عاتب على الرب الذي خلقه في بلاد العرب»، ثم يعود ليقول نثراً، بلهجة ضائعة بين اللبنانية والفلسطينية، إن الضهيرة وشقيقاتها (مزرعة الضهيرة، البستان، يارين، زلوطية، مروحين، أم التوت) منسية لأنها ليست مسيحية ولا شيعية، فوظائف الدولة كما الانماء تذهب دائماً إلى غيرها. «حتى أن ابناء هذه القرى مستثنون من الدخول إلى الجيش والدرك، على العكس من سنّة الشمال مثلاً».
منسيون. هذا شعور غالب على الشبان. خليل أبو ساري في الرابعة والعشرين من عمره يطلب، في سخرية سوداء، «الحنان» من نواب المنطقة «المحرومة». «نحن شعب مزارع فقير»، يقول، «نحن أولاد شريط حدودي مهمشون».. و«لولا هذه الشتلة المرّة فكيف سنعيش».
الشتلة المرّة إذاً. نجدها في فسحة أمام بيت عتيق، «جنة» صغيرة محاطة ببضع تلات جرداء. من هنا، تتهادى هضاب جبل عامل، عارية في معظمها. لا بأس بالاستماع مرة جديدة إلى حكاية هذه الشتلة التي يُتغنى بها، وبصمودها. لكن، فلتكن الحكاية على الورقة والقلم، وفق حسابات ابراهيم، المزارع الاربعيني. يبيع محصوله السنوي بمليونين ومئتي الف ليرة. يتكلف في الضمان السنوي للأرض، وشراء مواد كيميائية وخلافه من مصاريف، مليونا ونصف مليون ليرة. يربح، والحال هذه، سبعمئة الف ليرة سنوياً، هي على الاقل تعويض تعبه واطفاله وزوجته في العمل المرهق المواكب لهذه الشتلة في مراحلها كافة وصولاً إلى بيعها.
خليل الذي يفترض أنه يقبل على مستقبله، بلا عمل حالياً، هو الذي تنقل في أعمال البناء قبل الحرب، وعمل لسنة في نزع الالغام بعد حرب تموز. هذا ليس مستقبلاً بالطبع، في قرى شبه خالية من الناس. هذه بطالة مقنّعة. أكثر من عشرين مرة، تقدم كل من ابرهيم وخليل بطلبات توظيف لدى الشركات المتعهدة خدمة «اليونيفيل». لم يتوفقا ولا مرة.
خليل يقودنا إلى النقطة الاقرب لفلسطين. ليس بعيداً عن الضهيرة تقع «جرديه»، القرية العربية المحتلة، التي تدل بيوتها غير المتناسقة شكلاً، إلى أنها ليست مستوطنة مزروعة زرعاً. هاتان قريتان كانتا متداخلتين قبل العام 1948 وابناؤهما من الاقارب. بينها وبين لبنان، للجهة المحتلة، طريق ترابية، كما عادة تلك الجهة من الحدود. في الجهة اللبنانية، تنتصب خيام بيضاء لـ«اليونيفيل». خالية من عناصرها بعدما أنهوا عملهم لهذا اليوم. بعد بضعة امتار يقع بيت هو اللبناني الاخير قبل الحدود. أمامه بستان تشقه طريق ترابية بعرض نصف متر. البستان المزروع زيتوناً مسيج. نمشي على الطريق الترابية، بحذر من يعرف أن الارض تحته آمنة، لكن القنابل العنقودية على بعد أمتار منه. ثمة ورقات كتب عليها بالانكليزية والصينية. اشارات يفهمها مزيلو الالغام. لقد صاروا في آخر البستان. صنعوا من الخشب اشكالا متجاورة. مستطيلات تشبه الأضرحة. ما زلنا، بعد اربع سنوات على تلك الحرب، نبحث عن قنابلها العنقودية. إلى يميننا اشجار زيتون زرعت بالقنابل. إلى يسارنا مساكب التبغ. نبحث عن الخط الازرق، ونجد إحدى علاماته. مهما ظن الواحد أنه اعتاد على المفارقات، يظل يذهل لوصول الكتابة الصينية إلى قرية مثل الضهيرة، بينما الدولة لم تصل بعد.
الضهيرة حالها من حال شقيقاتها. في يارين، لا نتوفق بأحد في مبنى البلدية، ولا على الطرقات التي تبدو أفضل حالاً من طرقات الضهيرة. كنزنا الجميل شقيقان مسنان من آل الوجه يجلسان في فيء دكان سمانة. لا داعي لكثير من الاسئلة. يقول أحدهما: «لا تصدق. فش بلد بترتاح اذا كان بجانبها عدو.. ويارين مقطعة، وناسها مهجرين.. شي ببيروت، وشي بالعاقبية وشي بطرابلس».
المقيمون فيها؟ يعملون في التبغ والزيتون. والأخير يحل موسمه كل عامين. أما التبغ، فما من داع لتكرار حكاياته. «بلادنا عدم شرعي يا عمي»، يتابع: «بلادنا عدم شرعي. بلاد ميتة. احسبها ميتة».
من قضاء إلى قضاء
في الخروج من هذه القرى المنسية، كما في الدخول إليها، ينتقل المشهد إلى غيره. ليس في رميش وفي عين ابل. هاتان بلدتان على حالهما من الثبات. لا تغيير يطرأ على رميش إلا في التمثال الذي ارتفع لابنها اللواء الشهيد فرانسوا الحاج. عين ابل كذلك. كلتاهما تنتظر نهايات الأسبوع والصيف كي تدب فيهما حركة مفتقدة.
بنت جبيل، بعدهما، هي التي تغيرت، أو أنها تتغير من دون انقطاع. المدينة، مركز القضاء، ما زالت تنفض حتى الساعة غبار المواجهة الأكبر في تاريخها. تلك التي أحالتها قبل أربعة أعوام إلى ما صعب تخيله من دمار. تنفض المدينة وجه الحرب، فتبدو كأنها تبنى كلها من جديد. سوقها الرئيسية باتت قاب قوسين من قيامها. قناطر بيضاء تتجاور أمام محلات ما زالت مغلقة بانتظار افتتاح رسمي في عيد التحرير. هذه السوق ستعود إلى مكانها رئيسية. مكان واحد حديدي شبه مهجور أقيم بعيداً وهو لا يفتح إلا في يوم الخميس، الموعد الأسبوعي لسوق بنت جبيل.
بنت جبيل وعيناثا ومارون الرأس وعيثرون ويارون، شقيقات هذه الجهة من الجنوب، أمرها يبدو مستغرباً. على وقع طبول الكلام الذي لم ينقطع عن الحرب، تبنى فيها فيلات وقصور، وينفلش القرميد الأحمر على سقفها يكاد يصير غالباً عليه. من أين للناس الاطمئنان إلى أن كل هذا ليس زائلاً بعد حين؟
عفيف بزي، رئيس بلدية بنت جبيل، يجلس على شرفة قصره الذي يضع اللمسات الأخيرة عليه. المهندس المتحدر من عائلة ميسورة الحال، الذي تغرب لسنوات عدة في أميركا قبل العودة والاستقرار في بلدته، تعمد أن يجعل من بنت جبيل التي تتمدد أسفل الشرفة لوحة لا يتمالك إلا أن يبتسم بغبطة كلما نظر إليها. يقول إن الناس اعتادت التهويل الإسرائيلي، «حتى صار روتيناً».
الاطمئنان يأتي من إصرار لا يفهمه إلا العالقون في عشق تلك الهضاب. لا خيار للناس إلا البناء. لكن البناء لا يعني إنماء. هو في شق منه مبادرات فردية اعتمدت على المنح القطرية السخية، وفي جزء آخر منه حنين اغترابي لا يذوي، يتجلى أكثر ما يتجلى في قرية مثل يارون، تتحدى فيها القصور بعضها البعض حجماً وأبهة، ومعظمها، إن لم تكن كلها، خالية.
رئيس اتحاد بلديات بنت جبيل يقول إن المنطقة عاشت حالة طوارئ طوال السنوات الأربع. الآن يمكن التفرغ للتنمية».
والتنمية مشاريع تترك السلطة اللبنانية لما شاء من الدول أو الأفراد أن يتبرعوا بها. هكذا، يمكن لمتبرعين عدة أن يبنوا حديقة عامة صغيرة في بنت جبيل، بغرفة ذات قبة، تكاد تكون مزاراً لشهداء البلدة، على اختلاف انتماءاتهم وتواريخ استشهادهم. غير أن الغلبة هي بالطبع للوجه الإسلامي في شكل العمارة، وفي تخصيص الغرفة لشهيدين قائدين من «حزب الله».
الطابع الديني ـ السياحي، يتجلى واضحاً في المنتزه الضخم عند مارون الرأس الذي يطل على الحدود. هذا المنتزه الذي تبرعت به إيران، يكاد يشبه الأحلام في نقطة «ميتة» أعلى تلة أسفلها شريط شائك. حدائق وأراجيح أطفال وغرف متجاورة مفتوحة الجوانب مظللة فيها مقاعد وطاولة تكفي لعائلات كي تمضي نهارها غير مضطرة إلى الابتعاد عنها لشوي اللحم الذي خصصت له منصات شواء ثابتة تقابلها مغسلة. في آخر الأسبوع، تضطر العائلات إلى الإبكار في التوجه إلى المنتزه لحجز اماكن الجلوس في مكان يزدحم عن آخره مع ساعات النهار.
في نقطة عالية من المنتزه، يرتفع المصلى ذو القبة، وعليه يرفرف علم إيران. أما في أسفله، وفي أشد صور التحدي كثافة، يمكن للإسرائيليين التفرج على أرض ترابية فيها حفر وتلال صغيرة وقواطع خشبية ترتفع عليها الحبال في سلالم، ملونة بألوان العسكر المرقطة. أرض معارك بأسلحة وهمية تطلق عيارات محشوة بالطلاء، هي مساحة للعبة معروفة على نطاق واسع عالمياً، عُدّلت، في هذه النقطة بالذات، لتخلط اللهو بالرسالة: إننا نتدرب على القتال علناً، في اقرب مكان إليكم، لا تحتاجون حتى إلى مناظير مراقبة لرؤيتنا.
في الثاني عشر من تموز المقبل، يستعيد لبنان ذكرى ثلاثة وثلاثين يوماً، باتت بعيدة عن معظمه. بشاعة الحرب زالت بركامها وثقوب جدرانها. غير أن أي حديث يحيل إليها، إلى ما كان قبلها وما تغير بعدها. في عيناثا، ترحب السيدتان الجالستان على مصطبة أمام البيت بالعابرين كما يليق باللهجة الجنوبية: اهلا يا روحي. أهلا يا قلبي. هما تجلسان أمام بيت نجا من السقوط في حي سوي معظمه بالأرض في وسط الضيعة. إحداهما تشير إلى البيوت الجديدة أمامها، لكنها تحكي عن البيوت التي كانت قبل الحرب. الصورة في ذهنها تختلف عما أمام عينيها. وتختلط أخبار البيوت بأخبار شهدائها وشهيداتها. لم تخرج هذه البلاد من حربها بعد. تموز ما زال عالقاً في هوائها. في بنت جبيل، يجلس عماد بزي داخل «فان» فالشا أمامه بضاعته من الأحذية. الرجل الأربعيني كان قبل عامين يجلس في المكان نفسه، بعدما خسر متجره ومصنعه. في الرابع عشر من آب 2006 كان يقف في خراب بنت جبيل، وكان بحاجة ماسة إلى سيجارة، هو الذي لم يغادر بلدته كل ايام الحرب. ما زال على إحباطه، وما فتئت الحرب تحوم أمام عينيه. ما لم يستقر اقتصادياً فلن يلملم شتات نفسه.
في القرى الأمامية، يتقدم عنوان مسح الأراضي. ناس يتحدثون عنه جهارا وآخرون همسا. يختلط العام بالخاص. الحقيقي بالمزور. الخاص بالخاص. الدولة بالمافيات. يستشهد أحد أبناء بنت جبيل بما قاله أحد نواب «الوفاء للمقاومة»، في يوم من الأيام، عن مافيا صامتة ومنظمة تضع يدها على المشاعات في البلدات الجنوبية الحدودية تحديدا. يقول الرجل الستيني نفسه ان «المافيا» نفسها، ولها امتدادتها في السياسة والبلديات والمخاتير والادارات، «ترسم الكثير من اللوائح البلدية والاختيارية وسيأتي يوم يترحم فيه كثيرون على زمن آل الأسعد وغيرهم»!
بجع
في يارون، نصل إلى آخر ما يمكن الوصول إليه من الحدود. نقف بالقرب من علامة زرقاء أخرى. يمكن رشق الموقع الإسرائيلي بحجر وإصابته من هنا. لا أحد غيرنا وبضعة طيور من البجع، يتثاقل الواحد منها ماشياً قبل أن يطــير ببطء في الســـماء. ما يراه على جهتي الحدود أرض طيبة، جنوبها مـــزروع عن آخره، وشمالها شبه أجرد، لولا الصديقة المرّة. من السماء، لا يرى الطائر حرباً. على الارض، نقترب من البرميل الأزرق المرفوع على عمود كأنه لغم مستعد للانفجار. نقترب محاذرين بالطبع خرق الخط الذي لا تراه عين. لا نجرؤ على الدوران حول البرميل. لوهلة، يختزل هذا البرميل كل أهمية البلاد الواقعة شماله، جنوب النهر. يبدو أعلى شأنا من ناس القرى ومن مائها ومن ترابها ومن حياتها. وحده الممنوع من اللمس. مدلل ومحمي، بعكس الناس المتروكين ليجترحوا معجزاتهم بمعونات دول العالم... وبالصبر... بالصبر وحده.

Script executed in 0.20229005813599