قراءة في كتاب : " منارة الفقهاء الشيخ موسى مغنية "
للمؤلف الكاتب السيد يوسف نظام الدين فضل الله
صدر هذا الكتاب في 216 صفحة عن دار البلاغة سنة 2010 وهو يتضمن مقدمة ، وسيرة ذاتية عن المرحوم المقدس الشيخ موسى مغنية ، وفترة دراسته في بنت جبيل ، وإقامته في عيناثا ، وعن الشيخ موسى الفقيه والشاعر ، كما يحتوي الكتاب عن نماذج من شعره،إضافة إلى خاتمة وملاحق .
يبحث الكاتب في مؤلفه في سيرة واحد من أولئك العلماء العامليين الكبار ، عن نابغ ذاع صيته ، وتبدّت شهرته في أكثر من مجال لغوي ، أدبي ، شعري ، وفقهي ، وعن خطيب مفوّه ، كانت له صولات وجولات في مجال الخطابة ، حيث كان صوته يدوّي على المنابر في مناسبات متعددة .
ينتمي الشيخ موسى إلى عائلة مغنية ، من بلدة طير دبا ، قضاء صور ، وهي من أشهر العائلات الدينية في جبل عامل ، كان لها حضور دائم ومميز ، فيكلّ الفترات ، من خلال علمائها الكبار وشعرائها وأدبائها ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ محمد ابن الشيخ مهدي مغنية صاحب كتاب " جواهر الحكم ونفائس الكلم " ، الشيخ محمود ابن الشيخ محمد مغنية ، الشيخ حبيب ابن الشيخ محمود مغنية ، الشيخ حسن ابن الشيخ مهدي ، الشيخ حسين ابن الشيخ علي ، الشيخ حسين ابن الشيخ مهدي ، الشيخ خليل بن حسين بن علي مغنية ، الشيخ محمد جواد مغنية وغيرهم ...
إذن الشيخ موسى هو ابن بيت علمي كبير ، وكان جدّه لأبيه الشيخ محمد أحد الأبرار الاتقياء العابدين الزّهاد في بلدة طير دبا ، كما كان أبوه الشيخ جعفر من العلماء الأفاضل ، حيث درس على الشيخ عبد الله نعمة في جبع ، ثم على الفقيه الشيخ محمد علي عز الدين في كفرا ، ثم أسس مدرسة دينية في جويا ، تمّ استدعاء علي بك الأسعد إلى تبنين ، لتعليم أولاده وتهذيبهم ، كما تعلّم على يديه مجموعة من الطلبة ، ومن بينهم الشي موسى ابن الشيخ أمين شرارة .
وهذا التركيز على الشيخ جعفر ، نتج عن شهرته في مجال اللغة العربية ، حيث كان علاّمة في مجالها .
في هذا البيت الديني العلمي نشأ الشيخ موسى ، وكان يواكب والده ، أثناء إلقائه الدروس على طلابه، وفي جلسات الشعر والأدب ، والمناظرات التي كانت تحصل .
وتأثر الشيخ بوالده في مجال اللغة ، وساعده كل ذلك في بناء ونسج شبكة علاقات مع العلماء والفقهاء الذين كانوا يرتادون مجلس والده .
يتحدث الكاتب عن دراسة الشيخ موسى ، ويختصرها بثلاث مراحل :
المرحلة الاولى : كانت على يدي أبيه حيث تربّى في أحضانه ، وتعلم لديه مع مجموعة من أترابه وأقاربه وأبناء عمومته ، وتنقل معه كما هي العادة بالنسبة لأبناء علماء الدين ، او الطلاب الآخرين، إلى عدد من مدارس جبل عامل ، فدرس مع السيد تحسين الأمين في مدرسة الشيخ مهدي شمس الدين في مجدل سلم ، وفي مدرسة شقراء التي أسسها السيد أبو الحسن موسى الحسيني ، وبقي فيها حتّى سنة 1910 ، وهو لم يذهب إلى النجف الأشرف لمتابعة دراساته الدينية ، كما فعل الكثيرون ، مكتفياً بما حصّله في جبل عامل في مجال الفقه واللغة والشعر ، مع تقديره لحوزة النجف الأشرف ، وبقي في المنطقة ، يتدرّج في سلّم العلوم الدينية وغيرها بشكل طبيعي ، حيث هضم كلّ مرحلة من مراحل تلك العلوم ، وكان مقصداً لطلاب العلم والعلماء ، يشجع على المعرفة والمثابرة ، ومحاربة الجهل ، والمحافظة على ما في مكتبات البيوتات العلمية والدينية .
المرحلة الثانية : يتحدث الكاتب عن فترة وجود الشيخ موسى في مدرسة بنت جبيل ، وهي فترة غنية بالنسبة إليه ، هو كان يحبّذ الاستقرار ، وتوفّر له ذلك في بنت جبيل ، التي عرفت عصرها الذهبي العلمي في مجال الفقه والعلوم الدينية مع الشيخ موسى شرارة ، الذي كانت تربطه بالشيخ جعفر والد الشيخ موسى علاقة وطيدة .
وتوطدت العلاقة بين السميين موسى شرارة وموسى مغنية ، حيث عملا معاً للنهوض بجبل عامل، وكان من نتاج العلاقة وثمارها ، مدرسة بنت جبيل الدينية ، التي ضمت وقتها اثنين وتسعين طالباً ، بعضهم أتى إليها من مدرسة حناوية ، بعد وفاة مؤسسها الشيخ محمد علي عز الدين .
مدرسة بنت جبيل كانت تدرّس الصرف والنحو والبيان وعلم المنطق وعلمي الأصول والفقه ، والشعر ، وقام الشيخان بعملية إصلاحية ، واكبت بين الارث التقليدي للتعليم الديني ، ومتطلبات العصر وحاجاته ، وكان إلى جانبهما مجموعة من المساعدين أمثال السيد نجيب فضل الله ، السيد محمد رضا فضل الله ، ثمّ السيد محسن الأمين ومن بين هؤلاء جميعاً ، برع الشيخ موسى مغنية بعلم اللغة ، حيث اعتبرها مكوناً أساسياً من مكوّنات المحافظة على التراث العلمي والثقافي ، وقد أتقن إلقاء الدروس على طلابه ، وكان حسن الأسلوب ، وكانت ثقته بنفسه كبيرة ، وساعده في ذلك انّه كان ذي هيبة ووقار ، ومعرفة واسعة ، ولكلّ سؤال لديه جواب ، وتكفي شهادة السيد محسن الأمين به ، حيث كان يقول عنه :
" إنّه معلمنا وأستاذنا ، ونلجأ إليه في أصعب المسائل " .
وقد أصبح فقيهاً متبحراً بالعلوم الدينية واللغوية ، ولذلك فانّه كان يدرّس طلابه الفقه وعلم الأصول، كما علّم النحو والصرف في اللغة ، وكان له الفضل في حلّ المعضلات المعقدة ، والمسائل المستعصية .
أما المرحلة الثالثة من حياة الشيخ موسى ، فيتحدث عنها الكاتب ، انّها كانت في عيناثا ، حيث صاهر الشيخ هذه البلدة ، التي تعتبر من الحواضر العلمية المهمة في جبل عامل ، وتخرج من مدرستها الدينية وغيرها ، عدد من العلماء والفقهاء والشعراء والأدباء ، حتّى اشتهرت بأنّها مركز للدراسات الدينية العليا ، ومن عائلاتها الدينية آل خاتون الذين انتقلوا منها لاحقاً إلى بلدة جويا ، وآل فضل الله ، حيث يذكر أن الشريف حسن ، جدّ هذه العائلة العلمية الدينية المشهورة ، وفد إليها في بدايات القرن العاشر الهجري .
وقد ازدهرت مدرسة عيناثا بعد أفول نجم مدرسة بنت جبيل ، التي فقدت مؤسسها ، حيث انتقل معظم الطلاب إلى عيناثا ، يدرسون هناك على يدي السيد نجيب فضل الله والشيخ موسى مغنية ، فهما كانا زميلين في الدراسة ، ثمّ في التدريس .
وتوثقت صلة الشيخ موسى بعيناثا بعد مصاهرته إياها ، حيث تزوج من آل بسام ، حيث رزق بابنتين ، تزوجت احداهما من السيد حسين آل فضل الله ، الذي رزق بــ نظام الدين فضل الله ( والد مؤلف الكتاب ) .
ويورد الكاتب في سياق الحديث عن هذه المرحلة ، بعضاً من شعر السيد حسين فضل الله ، وخاصة في رثائه لزوجته نور الهدى ، بنت الشيخ موسى مغنية ، وفي رثاء علماء آخرين من آل فضل الله، وبعض المناظرات الشعرية .
كما يورد بعضاً من شعر حفيد الشيخ موسى السيد نظام الدين ( والد المؤلف ) ، الذي تأثر بجدّه منذ نعومة أظفاره ، ورافقه في حلّه وترحاله ، وكان حافظاً لأشعار العرب ، لكن شعره غير مطبوع .
ان هذه المرحلة الثالثة من حياة الشيخ موسى مغنية ، كانت مهمة جداً وغنية ، حتّى ان نهضة عيناثا على المستوى العلمي ، والتي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر ، واستمرت إلى الثلث الاول من القرن العشرين ، ارتبطت بالشيخ موسى الذي أسهم بـ : إعادة " بعث المدرسة الدينية ، إكمال المسيرة بعد وفاة السيد نجيب فضل الله ، عاملاً على متابعة التعليم خارج جدران المدرسة ، منطلقاً من مبدأ ان المعلم هو المدرسة ، وان المدرسة هي المعلم ، ولذلك فانّه كان يقوم بتدريس اللغة والفقه والأصول من سنة 1917 حتّى سنة 1939 .
ونظراً لما مرّ على المنطقة من معاناة جرّاء السيطرة العثمانية ، ثمّ الاجتياح العسكري الفرنسي ‘ فانّه كان يرى أن من واجبه نشر العلم والثقافة ، ولذلك فانه عمل على متابعة التعليم في بيته في عيناثا ، أو في المسجد ، أو في بعض بيوت بنت جبيل ، وغايته الأساسية المحافظة على استمرارية المدرسة ، دون النظر إلى ما يتعلق بها من نظام الصفوف ، والراتب وغير ذلك .
ويستعرض الكاتب أسماء مجموعة من الطلاب ، الذين تعلموا على يديه ، وبعضهم تابع الدراسة في جامعات النجف الأشرف ومنهم : الشيخ موسى شرارة حفيد الشيخ موسى أمين شرارة ، الشيخ محمد علي شرارة ، الشيخ عبد الكريم الزين ، الشيخ علي بزي ، السيد محمد سعيد فضل الله ، السيد عبد الرؤوف فضل الله ، السيد عبد اللطيف فضل الله ، السيد حيدر الدين فضل الله ، السيد محمد حسين فضل الله ، والسيد عبد المحسن فضل الله .
ومن طلابه أيضاً عدد من الشعراء والأدباء ، أمثال السيد محمد نجيب فضل الله ، وهو من أبرز تلامذته ، وقد برع في مجال الشعر والأدب ، وتشهد له في ذلك منابر جبل عامل ، وهناك أيضاً السيد ضياء الدين فضل الله ، والسيد عبد الحسن فضل الله والسيد عبد الحسين فضل الله ، والسيد محمد حيدر الحسيني والشيخ عبد الحسين بسام ، والسيد عبد الحسن جعفر وغيرهم ...
ثم ينتقل الكاتب للحديث عن الشيخ موسى مغنية الشاعر والفقيه ، فحسب ما يذكر عارفوه من علماء وكبار السن ، فانّه كان شاعراً وناقداً وحجة في اللغة والأدب ، لكن يبدون أن معظم تراثه الشعري والفقهي مفقود ، ولم يعثر إلاّ على قصاصات مبعثرة ، ومخطوطة وحيدة ، هي منظومة شعرية ، في ميدان فقهي صعب ، هو الإرث ، وقد تمّ نشر بعض صفحاتها في هذا الكتاب .
في المجال الشعري، وكما يورد الكاتب ، لم يعثر للشيخ موسى إلا على قصيدة واحدة في مدح أحد كبار علماء جبل عامل ، موجودة ضمن مجموعة للسيد محمد رضا آل فضل الله ، تبدأ هذه القصيدة بمطلع غزلي جميل يقول فيه:
وخودٍ من الغيد الكواكب زانها من العيش صفو لم ترنق مناهله،
إلى أن يقول :
مضى مسرعاً لم يولني غير حسرة وقلب بنار الوجد تغلي مراجله
فراح خلياً لم تدنسه ريبةٌ ورحت بقلب أتعبته بلابله
ولما بدا صبح الهداية ساطعاً أصاب سبيل الرشد للقصد جاهله
بطلعة شمس الدين والحكيم الذي تدفق بالمعروف والجود ساحله
ويختم بقوله :
ولازلت في الدنيا مناراً لأهلها وللدين رمحاً في يد الحق عالمه.
إلى جانب ذلك فإن للشاعر تخميساً لخمسة أبيات من قصيدة أبي فراس الحمداني :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
والتخميس هو " إضافة بيت وشطر ثالث ، على وزن صدر البيت المراد تخميسه ، فيصبح البيت الشعري خمسة أشطر ، وهو فن من فنون إشتهرت به العرب ، خاصةً في العصر العباسي".
وللشيخ أيضاً تخميس لحوالي ثلاثين بيتاً من قصيدة أبي فراس في مدح آل البيت :
الدين مهتظم والحق مخترم وفيئ آل رسول الله مقتسم.
ويبدو هذا الطراز الذي طرأه الشيخ من أجل فنون الشعر .
ويكفي ما يورده الكاتب ، من ذكر شهادة لأحد تلاميذ الشيخ ، الأديب والشاعر السيد عبد الحسين فضل الله ، الذي يقول بأستاذه :
" لولا الشيخ موسى مغنية لكنا أميين في عيناثا".
بالنسبة للأرجوزة الفقهية ، فقد أجاد الكاتب في عرضها ، مع مضامينها وشروحاتها وأبوابها المختلفة ، بحيث جاءت كشرح وافٍ عن أهم المسائل صعوبة وتعقيداً في المجتمع، ألا وهي مسألة الإرث ، التي يدخل العلم الرياضي أساساً في حلها وشرحها.
والأرجوزة كبيرة ، لكن لم يبقى منها إلا أبيات في باب الإرث ، إحتفظ بها والد المؤلف ، وحاول الكثيرون الحصول عليها، كما هي ، لكن دون جدوى ، لأنها هي ما تبقى من إرث الشيخ ، الذي يمكن أن يضيء على كل شيء من حقيقة علمه وفهمه .
وقد وصفها عدد من الشعراء والأدباء ، أمثال : محمد علي الحوماني ، السيد عبد اللطيف فضل الله، علي شرارة ومحمد حيدر الحسيني ، وقال فيها:
هي آيات لموسى أحكمت بيِنات مثل ما في الصحف
فهي نور وهي يمٌ زاخر فمتى شئت أقتبس واغترف
والمنظومة كما يذكر الكاتب تؤرخ لعصر من عصور الفقهاء والكبار ، فيه تراث أدبي مميز ، وفن من فنون الأدب والشعر الفقهي في الرسالة العلمية .
وتتضمن المنظومة أبياتاً تعبر عن معاناته مع طلابه ، ويصف ذلك بأنه :
" كشرب المراد على القذى".
ويعتمد السيخ موسى في هذه المنظومة إلى أمهات الكتب الفقهية الإسلامية ، ومن مختلف المذاهب، وتعتبر بالتالي أحكاماً شرعية تتعلق بموضوع الإرث في أكثر من جانب ، ويلاحظ التفصيل في هذا المجال ، ويمكن القول أن هذه الأرجوزة هي ديوان في قصيدة ، بكل معنى الكلمة.
إن القصيدة وشرحها تدل على مدى عمق ثقافة الشيخ ،وسعة معارفه، وتبحره في أحد المجالات الصعبة جداً ، وأنها بالتالي تمثل قيمة فقهية مهمة ، نستطيع القول بعد دراستها أنه كان للشيخ دور مهم في إرساء أسس وقواعد ومداميك الحركة العلمية في جبل عامل ، وهو بالتالي من القلة القليلة التي يعتد بها ، ويشار إليها بلبنان.
وإن ما ورد في كتاب السيد يوسف فضل الله ، يؤكد لنا أن العبرة ليست في كمية العطاء ، وإنما بنوعيته ومستواه ، ومدى فائدته ،وإنعكاساته الإيجابية على أرض الواقع في المجتمع.