لم تغيّر تجاعيد 83 عاماً التي حطّت بظلالها على هذا الوجه من تفاصيل الابتسامة ولا من تورّد الوجنتين، فهي رغم تقدمها في السن لا تزال في أوج نشاطها. فتعيش الحاجة تفاحة وحدها في منزل بسيط متواضع على أطراف مدينة بنت جبيل الجنوبية، ويقتصر المنزل الذي ورثته عن والدها على غرفة واحدة جمعت فيها كل حاجاتها: السرير بالقرب من البراد، وبالقرب منه خزانة امتلأت بالصحون، وفي الزوايا أوعية فارغة تنتظر الحليب الذي ستنتجه البقرتان اللتان ترعيان في الحقل خارجاً.
83 عاما، وما زالت تعمل كمزارع عشريني لا يردها البرد ولا الحر ولا حتى الحرب، وآخرها في تموز 2006. يومها، رفضت الحاجة مرات عديدة مغادرة غرفتها الصغيرة والابتعاد عن الأرض، إلا أن القصف، في نهاية المطاف، أجبرها على الابتعاد.
تتحدث الحاجة تفاحة عن حياتها بفرح، فهي تتخطى الصعاب التي واجهتها في حياتها، لتبقى سعيدة. تتذكر أغرب ما حصل لها، كونها تزوجت مرتين في زمن لم يكن لنساء القرية حرية اختيار أزواجهن أو إبداء الرأي. وفي المرتين، لم تكن سعيدة. في المرة الأولى، تركها زوجها مسافراً إلى أميركا بحثا عن الرزق. وفي الثانية، أجبرتها أمها على الزواج لنسيان طليقها المسافر، ولم تدم طويلا قصة الزواج، فطلقت منه مجدداً. تقول، وكأنها تحاور نفسها: «كأنه مقدر لي العيش وحدي». فهي لم تنجب الأولاد من زوجيها، إذ في زواجها الأول، أجبرت على العمل في الزراعة وهي حامل، ففقدت عدة مرات أملها بإنجاب طفل. وها هي اليوم تعيش أيضاً بمفردها في غرفة شاهدة على أحداث كثيرة وحروب متعددة، فقصة الغرفة تبدأ من قبل ما «رممتها بعدما هدمها الفدائيون»، تقول.
تفاحة هي الأخت الوسطى بين أختين توفيتا منذ سنوات. لم ينجب والدها ذكورا فقدرت لثروته أن تكون لها، ولو بعد زمن. هذه الثروة التي باتت من نصيبها لم تغير شيئاً من عملها. فهي لا تزال تزرع حقولا وتقطف اخرى وتبيع المحاصيل في السوق وتربي الماشية ولا ترى في ذلك تخلفا أو جهلاً. حتى أنها استعملت ثروتها لأغراض دينية، فقدمت منها ما يكفي لبناء مسجد، فـ«عمّرت جامعا بعد الحرب قرب منزلي ليصلي فيه الجيران». هذا المسجد، الذي عمل أقاربها على بنائه، يعني لها الكثير: فهي ترفض أن يزورها أحد من دون أن يقصده إن لم يكن للصلاة، ففقط لإلقاء نظرة اعتراف بانجازها.
كانت الثروة سبباً في أن يرمي اللصوص عيونهم عليها. فقد سرقت مرتين، وحتى اليوم، هي تخشى السرقة، فتطلب أحياناً من ابنة الجيران أن تنام عندها. ورغم هذا الخوف، لا تأبه للعيش وحدها، فلقد اعتادته منذ أن تركت زوجها الثاني وتوفيت والدتها، تقول: «أعيش وحدي منذ أكثر من عشرين عاماً». عشرون عاما وأكثر من الوحدة: «أغسل وحدي، أرتب بيتي وأنظفه، الماء كثير، لدي بئران، واحد للشرب وآخر للغسيل». هكذا، نظمت تفاحة حياتها، فلا تطلب عونا من أحد. وإذا احتاجت شيئاً ما، تطلبه من مصدره باستقلالية.
سافرت تفاحة في حياتها أكثر من 3 مرات، وذلك لتأدية فريضة الحج، والعمرة: «فالله وحده هو الذي أتكل عليه».
جلست تفاحة تروي عن حياتها وذكرياتها، وكأنها تقص روايات من ماضٍ طال. على حافة من الاسمنت، أمام تلك الغرفة، جلست، وقالت إنها خجلة من ثوب الزراعة الذي استقبلت زوارها به، ورفضت أن تتصور به.
تمر الساعات رقيقةً برفقتها، في حقل واسع تزقزق فيه العصافير، وفي محيط قطة تحوم باحثة عن طعام.
حديثها ينسي المستمع الغاية التي قصدها من أجلها. فالحاجة تفاحة قصة مختلفة عن المجرى العادي للأحداث، تدهش زوارها بعزيمتها وقدرتها على العيش. قد يسأل المرء ما حاجتها لكل هذا العذاب، إلا أنها لا ترى في عملها عذاباً، ولا مللاً، وإنما مصدر متعة، كأنها وليدة هذه الارض ومخلوقة لترعاها وتهتم بها.
شخصية مرحة وقوية في آن، وقد لا تتكرر في بلد بات يعتبر الزراعة فناً قديماً وبائداً.
مها بيضون
83 عاما، وما زالت تعمل كمزارع عشريني لا يردها البرد ولا الحر ولا حتى الحرب، وآخرها في تموز 2006. يومها، رفضت الحاجة مرات عديدة مغادرة غرفتها الصغيرة والابتعاد عن الأرض، إلا أن القصف، في نهاية المطاف، أجبرها على الابتعاد.
تتحدث الحاجة تفاحة عن حياتها بفرح، فهي تتخطى الصعاب التي واجهتها في حياتها، لتبقى سعيدة. تتذكر أغرب ما حصل لها، كونها تزوجت مرتين في زمن لم يكن لنساء القرية حرية اختيار أزواجهن أو إبداء الرأي. وفي المرتين، لم تكن سعيدة. في المرة الأولى، تركها زوجها مسافراً إلى أميركا بحثا عن الرزق. وفي الثانية، أجبرتها أمها على الزواج لنسيان طليقها المسافر، ولم تدم طويلا قصة الزواج، فطلقت منه مجدداً. تقول، وكأنها تحاور نفسها: «كأنه مقدر لي العيش وحدي». فهي لم تنجب الأولاد من زوجيها، إذ في زواجها الأول، أجبرت على العمل في الزراعة وهي حامل، ففقدت عدة مرات أملها بإنجاب طفل. وها هي اليوم تعيش أيضاً بمفردها في غرفة شاهدة على أحداث كثيرة وحروب متعددة، فقصة الغرفة تبدأ من قبل ما «رممتها بعدما هدمها الفدائيون»، تقول.
تفاحة هي الأخت الوسطى بين أختين توفيتا منذ سنوات. لم ينجب والدها ذكورا فقدرت لثروته أن تكون لها، ولو بعد زمن. هذه الثروة التي باتت من نصيبها لم تغير شيئاً من عملها. فهي لا تزال تزرع حقولا وتقطف اخرى وتبيع المحاصيل في السوق وتربي الماشية ولا ترى في ذلك تخلفا أو جهلاً. حتى أنها استعملت ثروتها لأغراض دينية، فقدمت منها ما يكفي لبناء مسجد، فـ«عمّرت جامعا بعد الحرب قرب منزلي ليصلي فيه الجيران». هذا المسجد، الذي عمل أقاربها على بنائه، يعني لها الكثير: فهي ترفض أن يزورها أحد من دون أن يقصده إن لم يكن للصلاة، ففقط لإلقاء نظرة اعتراف بانجازها.
كانت الثروة سبباً في أن يرمي اللصوص عيونهم عليها. فقد سرقت مرتين، وحتى اليوم، هي تخشى السرقة، فتطلب أحياناً من ابنة الجيران أن تنام عندها. ورغم هذا الخوف، لا تأبه للعيش وحدها، فلقد اعتادته منذ أن تركت زوجها الثاني وتوفيت والدتها، تقول: «أعيش وحدي منذ أكثر من عشرين عاماً». عشرون عاما وأكثر من الوحدة: «أغسل وحدي، أرتب بيتي وأنظفه، الماء كثير، لدي بئران، واحد للشرب وآخر للغسيل». هكذا، نظمت تفاحة حياتها، فلا تطلب عونا من أحد. وإذا احتاجت شيئاً ما، تطلبه من مصدره باستقلالية.
سافرت تفاحة في حياتها أكثر من 3 مرات، وذلك لتأدية فريضة الحج، والعمرة: «فالله وحده هو الذي أتكل عليه».
جلست تفاحة تروي عن حياتها وذكرياتها، وكأنها تقص روايات من ماضٍ طال. على حافة من الاسمنت، أمام تلك الغرفة، جلست، وقالت إنها خجلة من ثوب الزراعة الذي استقبلت زوارها به، ورفضت أن تتصور به.
تمر الساعات رقيقةً برفقتها، في حقل واسع تزقزق فيه العصافير، وفي محيط قطة تحوم باحثة عن طعام.
حديثها ينسي المستمع الغاية التي قصدها من أجلها. فالحاجة تفاحة قصة مختلفة عن المجرى العادي للأحداث، تدهش زوارها بعزيمتها وقدرتها على العيش. قد يسأل المرء ما حاجتها لكل هذا العذاب، إلا أنها لا ترى في عملها عذاباً، ولا مللاً، وإنما مصدر متعة، كأنها وليدة هذه الارض ومخلوقة لترعاها وتهتم بها.
شخصية مرحة وقوية في آن، وقد لا تتكرر في بلد بات يعتبر الزراعة فناً قديماً وبائداً.
مها بيضون