مايا ياغي
«لا ينتظر فعل الخير مالاً، لأن من أراد أن يعطي من قلبه بإمكانه أن يعطي ابتسامة أو كلمة دعم»، هكذا، يلخص بلال إسماعيل ما يعنيه له العطاء. تجربته في العمل التطوعي لم تكن «معلّبة» بنظام مؤسساتي كما يقول. كان الهدف في داخله. بدأت الأسئلة تتواتر إلى رأسه إثر حادثة على دراجة نارية في قريته، أصيب في خلالها شاب في التاسعة عشرة من عمره، نُقل إلى المستشفى في سيارة خاصة، لأن سيارة الإسعاف التي اعتاد بلال قيادتها لم تكن جاهزة لتلبية الطلب، «ولأن الرحمة نفدت من قلوب الناس» كما يقول. ويستعيد بلال الحادثة بتأثّر شديد: «وصلنا إلى أحد مستشفيات النبطية والشاب في حالة نزيف واضح، ومع هذا لم نستطع حتى إدخاله إلى غرفة الطوارئ لأننا عجزنا أنا وأهله عن سداد مبلغ كبير من المال طلبته إدارة المستشفى لإدخاله. اتصلت بأقارب للشاب فقالوا لي بالحرف: الأمر لا يعنينا، تصرف أنت». لم يكن لدى بلال خيار سوى أن يجمع المال من أهل القرية، لأن حالة المصاب لا تحتمل التأخير. سدّدت كل أسرة ما تيسّر لها من نقود، وتوافد بعض الأقارب وأهالي القرية للمستشفى وأمنوا دخول المصاب. إلا أن التأخّر في إسعاف الشاب سبب وقوعه في غيبوبة لم ينجُ منها حتى الآن.
هكذا، لاحظ بلال أن عدم وجود سيارة إسعاف في القرية أصبح يهدّد حياة سكانها ويقف عائقاَ أمام محاولة إنقاذ المصابين منهم، وخصوصاً أن يحمر الشقيف بلدة بعيدة، تقع على مسافة ما يقارب نصف ساعة من النبطية. وحتى لو استُدعيت سيارة إسعاف من خارج البلدة، فسيحتاج سائقها للكثير من الوقت ليجد طريقه بين أزقتها، حيث لا ترقيم للشوارع ولا تسميات. فكّر بلال بالموضوع، وقرّر أن تكون المبادرة منه: لمَ لا تصبح سيارة الإسعاف التي قدمها أحد مغتربي البلدة إلى سكّانها باسمه، بدل أن يدور من منزل إلى آخر بحثاً عن مفتاحها كلما وقع طارئ في القرية؟ هكذا، باع سيارته الحمراء، «حبيبة قلبه»، ودراجته النارية الكبيرة أيضاً. لم يكن المبلغ كافياً، لكنه رغم ذلك، عرض فكرة شرائها على أصحابها الذين يعرفونه ويثقون به، فرحّبوا بـ«تظبيط» السعر وتسجيلها باسمه. هنا، اكتملت الفكرة في رأسه: سيارة إسعاف، غرفة إسعافات أولية، وفريق من المتطوعين، لتكون القرية محصنة أمام أي طارئ يصيب أحد أبنائها.
بعد عشرة أيام على بدئه تنفيذ فكرته، وصل عدد المتطوعين في فريق إسعافات يحمر الشقيف إلى ثلاثة وثلاثين متطوعاً، جمع بعدها بلال بعض الأسرّة و«الفرش» والطاولات من المتبرعين، وجهّز خطاً هاتفياً وعمّمه على أهل الضيعة، ليبقى «على السمع»، مع الشباب المناوبين في غرفة من مدرسة القرية القديمة، قدمتها البلدية لتكون غرفة إسعافات، رغم أنها لا تحوي مقومات المأوى الأساسية، من حمام أو براد أو كهرباء. الشمعة هي النور الوحيد الذي يضيء فيها.
فرح أهل القرية بمبادرة ابنها. فهو ذو الباع الطويل في العمل التطوعي الذي لطالما لبّى نداءاتهم في أي وقت كان، وفي أية ظروف. يستشهدون بحرب تموز، التي يذكرها بلال جيداً: «كنت أذهب بسيارتي الشخصية، أجلب الخبز والأدوية من النبطية، وأسعى للحصول على إعاشات لأبناء البلدة». الشاب المتحمس، ليس جديداً على العمل التطوعي إذاً. فقد تطوع في الدفاع المدني اللبناني، فرع النبطية، سائقاً سيارة الإطفاء منذ أكثر من ثلاث سنوات، وإلى جانب الوقت الذي كان يقضيه في مركز تطوعه، كان دائماً يجد الوقت لهم أيضاً.
في مركزهم المستحدث، يجلس بلال وفريقه. أربعة منهم لا تتجاوز أعمارهم السبعة عشر عاماً. يعرّف عنهم بدعابة قائلاً: «هودي جيل المستقبل وعليهم الاعتماد، أنا راحت علي»، رغم أنه لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره بعد. الشاب معروف بروح الفكاهة. فريقه متعاون جداً رغم أنهم جميعاً من المتطوعين.
في ختام اللقاء معه، يعترف بأن تحديات كثيرة تواجههم. ولكن الحاجة الماسة لوجودهم في القرية لا تسمح بتراجعهم عن المشروع: «تسعة أيام نقلنا فيها إحدى عشرة حالة، معظمها طارئ، وفقيراً لا يملك الذهاب إلى المستشفى». يؤكد بلال أن ما يرهقه هو كلفة البنزين، إذ يتحملها على عاتقه، هو الذي يقود شاحنة كبيرة لنقل المواد الأولية في عمليات البناء. أما عن قدرته على الاستمرار بهذا الوضع، فيضحك ممازحاً: «بس يوصل دين البنزين لسعر سيارة الإسعاف منبيعها ومنوفي الدين».
يأمل الشاب أن يستحصل على علم وخبر لسيارة الإسعاف، لأن كل ما يقوم به الآن يقع تحت مسؤوليته الشخصية، بينما «العلم والخبر يحتاج إلى مبلغ لا يقل عن مليون ليرة، ولكنه يفوق قدرتي المالية، تحديداً في هذه الآونة، وأثرياء الضيعة آخر همهم أمور الناس، لهذا، قررت ألا أطلب منهم شيئاً».