في لوحاتها جسدت حمدى المرأة والفلاحة، والام والطفل والحياة والضيعة، كانت وحيدة بين شبّان تلقنوا اصول الرسم في معرضها الأول الذي شاركت فيه في خان الافرنج، حيث عرّفت رسوماتها عنها.
في كانون الاول تكون بداية الحياة عند حمدى، المرأة الخمسينية، كونه يمثّل تاريخ عودتها الى الريشة التي كانت تنقطع عنها طيلة فصل «شك» التبغ وتصفيته ودكّه، وهي عمليات ترافق جني محصول التبغ جنوباً، عندما يفوح عطر الزهرة التي تروي عطشها برسم الحياة على طريقتها، مضمَّخة بالالوان والتعابير، التي تراها ملائمة لكل جانب من جوانبها، هذه هي الحياة عند حمدى التي من خلالها تسعى لتنعكس على منزلها وبلدتها وبلدها.
بسلاسة المرأة الفلاحة البسيطة تتحدث، فتختار كلمات شيقة تستحق التوقف عندها، فعبرها تعود إلى الذاكرة، وأيام الطفولة لتقول لـ»البناء»: «حين كنت في التاسعة من عمري كنت ابدع في الرسم، ارسم كل ما اراه واهواه، وأرى نفسي من خلاله، لكن الفأرة اكلت جزءاً من رسومات الطفولة التي كنت احتفظ بها في ركن الخزانة، كل لوحة من لوحاتي تخفي حكاية يشهد لها الزمان، وتشهد لها الذكريات التي تعبق اريجاً يسطع على مساحة حياتي التي ما انفكت تقتحم عالما هو بعيد اميالا عني».
الفلاحة التي تمضي وقتها في زرع وقطاف الدخان تنتقل الى «حاكورة البيت» كما تحب ان تسميها، تنكش الأرض، تزرع الخضار لتساعد زوجها في مصاريف المنزل. لكنها لا تتوانى عن سرد حنينها الى الماضي فتقول:»آه على ايام زمان وخبز التنور، لاجل ذلك صنعت تنورا في المنزل اخبز فيه المشاطيح والكعك، حيث لا أجد أطيب من خبز التنور».
عشقها للوحاتها يدفعها الى تفقدها في منازل اصدقائها وتضيف لـ»البناء»: «اتفقد لوحاتي التي اهديتها لاصدقائي واقاربي لاستعيد عبرها ذكريات وظروف رسمها، الطبيعة توثر كثيرا بي وخاصة عين الضيعة».
قلما تجد امرأة مكافحة في هذا العصر، تتنفس من فضاء الرسم لتبتعد عن همومها ومشاكلها الحياتية، هي ربة منزل بامتياز نهاراً، أما ليلاً فهي رسامة مبدعة خلقت لذاتها هالة ميزتها بريشة ابدعت لوحات سحرت الكثيرين بروعتها، حتى ان احد ضباط الجيش اللبناني طلب منها ان ترسم له عدداً من اللوحات لمنزله، ولحمدى قصة مع لوحاتها فتقول:» اول لوحة رسمتها كانت منذ 25 سنة عن الطبيعة، الرسم هو روحي وجزء مني، اعتز بأنني رسامة ومزارعة، بيتي منبع التراث فيه التنور وكل شي قديم، رسمت لوحة عن بنات الضيعة وعلى رأسهن الجرار تجسيداً للتقاليد، وحفاظاً على تراثٍ بات التطور يبتلعه كالحوت».
تلمس في صدى كلماتها حنيناً إلى الماضي، الذي تحاول تجسيده في لوحاتها، سواء كان ذلك عبر المرأة الفلاحة او الحقل والبيدر، أو الامومة.
وعن المعارض التي شاركت فيها، تقول حمدى لـ»البناء: « اقامت لي جمعية تقدُّم المرأة معرضاً خاصاً، وفي عام 2000 شاركت مع 42 فناناً في معرض خان الافرنج في صيدا، حيث استفدت منه مادياً ومعنوياً، ووذاع صيتي عبره».
وأضافت: «بدايتي كانت حين كنت طفلة صغيرة في مدرسة الضيعة، كان يطلب مني رسمات احتفظت بها، واخذتها الى بيت الزوجية، لكن الفأرة المجرمة اكلت تلك اللوحات، « يادللي شو انقهرت عليهن اجت الفارة المنحوسة اكلتهن»، كنت احرم نفسي من المال كي اشتري أقلام التلوين، توقفت لفترة عن الرسم بسبب تربية الاولاد، ولكن حين كبروا، عاودت ممارسة هوايتي التي أخرجتني الى عالم جديد، بعيد عن مشاكل وآفات المجتمع وهموم الاولاد، اجلس لساعات طوال على الارض في الليل امام مرسمي المتواضع، وهو عبارة عن اريكة صغيرة وفوطة قماش بيضاء متواضعة، تحيط بي الالوان البسيطة، ورائحة الكاز تعبق داخل الغرفة، ما يثير غضب زوجي الذي كان معارضاً لعملي وموهبتي، مستخفاً بها، الى ان شاركت في معرض اقامه المجلس الثقافي للبناني الجنوبي مع 42 فناناً من خريجي معهد الفنون الجميلة، حيث كنت الوحيدة الموهوبة، لم اتعلم اصول الرسم ولا في أي مدارسه، لكن اعتمد الكلاسيكي، لانه مريح جداً، وعبره ارى ذاتي واضيئ على الواقع الذي عايشته، واريد لجيل الشباب ان يعيشوه ويروه».
وتضيف حمدى قائلة: «أحب تجسيد التراث والحياة التقليدية القديمة وبيدر الضيعة والامومة في لوحاتي، احب الجلوس مع الريشة لأهرب من تعب النهار».
حازت حمدى على شهادة «التكميلية»، لم تسمح ظروفها بإكمال دراستها، إلا انها لم تتخلَ عن حلمها رغم عمرها الذي ناهز الخمسين عاماً، وتختم قائلة: «الصيف للعمل، حيث لا اجد وقتاً للوقوف امام لوحاتي، اما الشتاء فهو للرسم، كل ما اشاهده اجسده في لوحة، لقد جسدت نفسي وأنا اشكّ التبغ مع اولادي، كما طلب مني الاتحاد الاوروبي لوحات عن واقع الحرب، وعن الدبكة اللبنانية، وجرش القمح، التراث يذكرني بطفولتي فهي احلى ايام حياتي التي لا يمكنني نسيانها بسهولة».
مع حمدى يمكنك ان تُرى الحياة الريفية البسيطة، سواء عبر حياتها داخل منزلها، او عبر لوحاتها، لانها تؤمن ان الحياة القروية هي منبع العطاء والمحبة على عكس الحياة هذه الايام، لا سيما في المدن الكبيرة.