تلك الاكلة التراثية التي يعود عمرها الى أكثر من مئة عام كما قال نقيب القصابين السابق في البقاع علي يعقوب، حيث أعطى لـ"البناء"، وأثناء جولة لها في مدينة بعلبك للاطلاع على تاريخ وأهمية أكلة الصفيحة، لمحة عن المطبخ اللبناني الذي اشتهر بثلاث "طبخات" أساسية رئيسية وهي: التبولة، الكبة النية، والمجدرة. ويقول يعقوب: "تطورت هذه الأكلات، وازداد عددها مع الوقت، خصوصاً أثناء الاستعمار التركي للبنان، والذي دام لسنوات عديدة. فتعلّم اللبنانيون طهو أصناف جديدة من الأطعمة، ولكن صحن الأرز يرافقهاغالباً، كاللوبية بزيت مع الأرز، البامية مع الأرز، الفاصوليا والأرز.
كان الضباط الأتراك يستدعون طباخيهم من تركيا خصيصاً لطهو الطعام، وعندما كان العمال اللبنانيون يساعدونهم بدأوا بتعلم الأكلات التركية، واليوم أكثر الأطعمة التي نتناولها هي أطعمة تركية الأصل، إضافة الى أطعمة أخرى متنوعة أجنبية، تعود الى أصول غربية وأجنبية أخرى".
ويضيف يعقوب: "أما بالنسبة إلى أكلة الصفيحة البعلبكية فتسميتها الأساسية هي "الصفيحة الحيدرية"، التي ابتكرها أحد أفراد باكاوات آل حيدر أيام الاستعمار التركي، حيث كانوا هم أصحاب النفوذ والأموال، وأصحاب "الضرس الطيب". أخبرني جدي مرة أنهم عندما كانوا صغارا كانوا ينتظرون أية مناسبة فرح أو حزن لتناول منسف الرز الشهي، الذي كانوا يقدمونه أثناء المناسبات، فكان آل حيدر أول من طهى هذه الأكلة. وهم اساس أكلة الصفيحة البعلبكية، التي بدأت على شكل مربع صغير الحجم لحوالى السنتيمترين من العجين، يحوي داخله حشوة اللحم، وإضافة إلى البندورة والبصل والصنوبر . فقام آل حيدر بنشر أكلة الصفيحة التي أبهرت الأهالي بطعمها الرائع، وانتشرت وبدأ ألأهالي بتطويرها وتعديلها، وما زالت تعرف حتى اليوم باسم الصفيحة البعلبكية".
إلا أن الصفيحة البعلبكية لم تلغ الصفيحة الحيدرية، يضيف يعقوب قائلاً: "ولكن لو قصدنا أي فرّان أو قصّاب في بلعلبك، وطلبنا منه الصفيحة الحيدرية، سترتفع أجرة صنع الصفيحة تلقائياً إلى خمسة آلاف ليرة إضافية، حيث ستزداد كمية الحشوة".
ويقول يعقوب: "لو عاد الأمر إليّ وأنا قصاب، لخلّدت الذين ابتكروا هذه الأكلة التي تجلب الى البقاع سيّاحاً أجانب يعادل عددهم عدد أولائك الذين يقصدون أعمدة جوبيتر".
في السوق الرئيسية للمدينة، التي يؤمّها السياح الأجانب من ضمن زيارتهم لبعلبك، نجد أن بعضهم يعرف اسم الصفيحة البعلبكية ويطلبها، أما أحدهم، وأمام أحد الأفران في سوق اللحمة، انبهر بطريقة صُنعها، ووقف متفرجاً لكيفية صنعها، وبدأ الاسئلة والاستفسار عن تلك الآكلة "الغريبة"، إلا أن أحد عمال الفرن، صاح بالسائح قائلاً:"oui, c’est le croissant de la viande "، هذا العامل يقول لـ"البناء: "إنهم يعرفون كرواسان الشوكولا والجبنة أكثر، وقد اشتهرت الصفيحة البعلبكية في العالم تماما كشهرة الكنافة النابلسية، التي سميت نسبة الى نابلس، والشيش كباب التي سميت نسبة الى حلب، والهمبرغر الأميركية، والبيتزا الايطالية، لذلك نأمل أن تصبح الصفيحة البعلبكية عالمية، وتنتشر كما انتشرت المأكولات الأجنبية الأخرى التي سبق وذكرتها".
مرعب شلحة 38 عاما ً، صاحب فرن لشيِّ الصفيحة يعمل فيه منذ عمر ثماني سنوات أما خبرته فتتعدى الثلاثين سنة. يشرح شلحة لـ"البناء" تاريخ الصفيحة، ويقول: "عمر الصفيحة أكثر من مئة عام، وأعتبرُ أن فن الطبخ وجه من وجوه الهوية، اضافة الى تقديم الطبق وارتباطه بالوجه الحضاري للمنطقة أو المدينة، والصفيحة البعلبكية ارتبطت بأهلها وطبيعتها ومدينتها، وهي فن أتحدى ان يجيده أو يتقنه أي فرد خارج المدينة، ولو أتقنه فستتغير النكهة والطعمة والذوق، فالبعلبكي يعطيها أثناء طهوها وخبزها، من كل قلبه، ولا ننسى عامل المياه وهواء المدينة، الذي تؤثر أيضا في نكهتها ولذتها".
ويضيف شلحة: "اشتهر البعلبكي بالصفيحة كما اشتهر ابن الهرمل بالسمك النهري، وابن زحلة بالكبة النية، وابن بيروت بالسمك البحري. وتعود لذة وطعم الصفيحة الى فرن النار الذي تشوى فيه ، وعندما تكون قاعدة الفرن مبنية من اللِبن الذي يوضع في داخله الملح، والزجاج والرمل، يبقى محافظاً على حرارته لمدة أسبوع، ما يجعل قطعة الصفيحة أكثر لذة، عكس القاعدة الحديدية، إضافة الى نار الفرن، فإذا كانت موقدة على الغاز، عندها تحتاج الصفيحة إلى مدة أطول اثناء الشوي، عكس المازوت الذي تشوى من خلاله في مدة أقصر، وبهذه الطريقة تشبه قطعة الصفيحة المشوية على الغاز حبة البسكويت، بينما المشوية على المازوت فتكون مشوية شويا تاما،ونكهتها ألذ وأطيب، وبذلك لو اخرجناها بعد أسبوع من الثلاجة لأحسسنا حينها بالطعم وكأنه طازج".
شلحة عدّد لـ"البناء" أصناف وأنواع الصفيحة البعلبكية قائلا: "ثمّة أنواع عدة منها وهي، الصفيحة الحيدرية، وهي الأساس في الصفيحة البعلبكية وتأتي على شكل مربعات صغيرة جدا،ً ولكن نسبة اللحم فيها تعادل نسبة البصل والبندورة، نصف كيلوغرام لحم يعادله نصف كيلو بصل وبندورة، أما الصفيحة المطعمية، وهي الصفيحة العادية الاعتيادية المربعة وهي التي تعودنا عليها في المطاعم والافران. كما هناك الصفيحة الطويلة وتسمى الشختورة وهي أكبر من قطعة الصفيحة العادية. أيضا الصفيحة الأرمنية المكونة من الصفيحة العادية يضاف اليها الثوم،الحر والكزبرة.
بالإضافة الى الصفيحة الأقراص أو المفتوحة والمعروفة باسم اللحم بعجين".
أما بالنسبة الى الحشوة أو المقادير أو النكهة يقول شلحة: "يكون الأساس فيها اللحمة ويضاف اليها إما البندورة والبصل، أو اللحم ويضاف اليها اللبنة والطحينة ودبس الرمان التي اعتمدها الاهالي سابقا كبديل للبندورة في فصل الشتاء قديما، بحيث ان البندورة ما كانت تتوافر أيام الشتاء، والتصدير لم يكن متوفراً حينها. ولكنها لا زالت مستمرة حتى اليوم ولو بنسبة أقل من الصفيحة البعلبكية الأساسية".
عماد عواضة 28 عاماً صاحب فرن عواضة داخل سوق القصابين قال لـ"البناء": "اعتقد أن عمر هذه الأكلة هو أكثر من 80 عاما، والطلب دائم عليها، ولكن يتزايد الطلب عليها في فصل الصيف أكثر من الشتاء، خصوصاً لأن فصل الصيف يشهد إقامة الأعراس والمناسبات اكثر، ولأن هذه الاكلة تقدم كوجبة أساسية في المناسبات الخاصة والعامة، وسعر الكيلوغرام من الصفيحة يبلغ تقريباً حوالى الـ35 الف ليرة لبنانية، أما عدد "الحبّات" في الكيلوغرام الواحد فيبلغ تقريباً مئة حبة، وتكفي لعائلة كاملة، أي ما يوازي سعر "سندويشتين" في بيروت، ومع ذلك فإن الاقبال عليها جيد.
المحامي انطوان ألوف، عضو مجلس بلدية بعلبك يقول لـ"البناء": "تمتاز مدينة بعلبك بهذه الأكلة التراثية، فتكاد لا تذكر اسم بعلبك الا وترافقها قلعتها التراثية الأثرية، أو "صفيحتها" التي يتبادر اسمها الى الذهن تلقائياً بعد ذكر اسم المدينة، ويمكننا القول في هذه الحالة أن المدينة والصفيحة صنوان لا يفترقان، لأن طعمها في هذه المدينة يميزها عن أية مدينة لبنانية اخرى، ففي بعلبك الصفيحة البعلبكية لها مذاق خاص ونكهة خاصة ومميزة، جعلت بعلبك تنفرد بصناعتها وطهوها، ما جعلها مقصدا للسيّاح والزوار الاجانب إضافة الى قلعتها".
ويضيف ألوف: "أيضا بالنسبة الى أبناء المدينة المغتربين، فقسم كبير منهم بعد زيارة مدينة بعلبك يقومون بأخذ كميات منها معهم الى دول الاغتراب، ما يزيد هذه الاكلة شهرة وتنوعاً. كما انها تقدم كطبق رئيسي في الحفلات والمناسبات نظرا الى سهولة تناولها، ولذتها، وتعتبر من الأكلات الصحية، لأنها تشوى على درجات حرارة مرتفعة".
تحتوي مدينة بعلبك تقريباً على حوالى 40 فرناً و 280 ملحمة داخل المدينة، أما في محيطها فيوجد 17 فرناً و70 ملحمة. كل تلك الافران تعمل يومياً في المدينة وحولها محافظة على تراث بعلبك ولبنان .