هناك أمور تتغيّر في عاصمة الجنوب. أصبح لليل حياةٌ في المدينة التي اعتادت أن تعيش على إيقاع هادئ محافظ. المجمّعات التجاريّة التي احتلّت جوانب الأوتوستراد الشرقي الذي يمرّ عبر المدينة، أوجدت نمطاً مختلفاً. في الأحياء الشعبيّة لا تزال الحياة كما هي. مقاهٍ تمتلئ بروّادها الذكور، من مختلف الانتماءات السياسيّة. تدخين النرجيلة ولعب الورق ونقاش سياسي واعتراض على ارتفاع الأسعار؛ هكذا يُمكن اختصار الأحاديث التي تدور في هذه المقاهي.
في العادة، تمتلئ المستديرات في صيدا باللافتات. هذه هي الحال دائماً. اليوم تختلط لافتات التعزية بالشيخ الراحل محمد دالي بلطة، مع لافتات الاستقلال وعيد الأضحى، والترحيب برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان... واللافتات الحمراء للتنظيم الشعبي الناصري الحمراء، التي تحمل شعارات ومواقف من السياسة الاقتصادية، التي «جوّعت الناس من أجل استعبادهم».
لكنّ حركة السوق التجارية ليست «في أفضل حالاتها»، يشتكي تجار المدينة. يلومون الطقس الذي لم يعرف ما هو الشتاء بعد. يلومون الغلاء الذي طال أسعار الجبن والسمن والفستق وغيرها من مواد صناعة الحلويات التي يمتهنها الكثير من أبناء بوابة الجنوب.
في ظلّ هذه الأجواء الاقتصاديّة الخانقة، خرج إلى العلن في الأسبوعين الماضيين صراع التنظيم الشعبي الناصري وتيّار المستقبل، أو تيّار أبو معروف وتيّار أم نادر. صدر بيانٌ أوّل عن التنظيم الناصري في 19 الجاري، اتهم فيه «مسلحين تابعين للنائبة بهية الحريري»، بالتعرّض «للمواطنين المارين بسياراتهم في مناطق عدة، من بينها مجدليون والكنيسات، حيث يعمد هؤلاء إلى إيقاف بعض السيارات العابرة وتفتيشها، إضافة إلى التعرض لركابها بالترهيب والمعاملة الخشنة». أضاف البيان إن هذه «التصرفات المليشيوية تأتي بعدما أقدمت النائبة الحريري على توزيع كميّات كبيرة من الأسلحة على أنصارها وأتباعها، وتترافق مع الدوريات المسلحة الليليّة التي يقوم بها هؤلاء الأتباع في شوارع صيدا وأحيائها، بتسهيل من جهاز أمني معروف».
وردّ تيّار المستقبل ببيان رفض فيه الاتهامات، ورأى أنها محاولة إقناع الصيداويين بأن هناك «طرفاً آخر مسلّحاً في المدينة غير التنظيم الناصري، وإقناعهم بأن السلاح الذي يقوم هذا التنظيم بتخزينه وتوزيعه منذ أشهر في صيدا هو لمواجهة سلاح آخر يزعم أنه لدى الطرف الآخر في المدينة»، وشدّد البيان على أن هذه التصرفات الميليشيويّة التي تثير القلق لدى المواطنين، و«تهدد الأمن والاستقرار، هي تصرفات مدانة تتحمل القوى الأمنيّة مسؤوليتها، إن هي لم تبادر إلى وضع حد لها». لم تنتهِ حرب البيانات. استمر تبادلها، وهناك مؤشّرات عن إمكان استمرارها.
في صيدا، يفاجأ الكثير من المواطنين بهذه البيانات. يقول محمّد، أحد تجّار السوق التجارية، إنه سمع هذا الكلام عبر شاشات التلفزة. يضيف: «قبل أحداث أيّار 2008 كنّا نعرف أن المستقبليين يتدرّبون، لأن هؤلاء الشبان هم أقاربنا أو جيراننا، أمّا اليوم فنحن لا نرى هذه الصورة أبداً». وفي مقاهي صيدا، الجو ليس مختلفاً. لكن مناصري التنظيم يُصرّون على وجود معلومات مؤكّدة لتوزيع السلاح، فيما يُصرّ مناصرو بهيّة على اتهام أبو معروف بتوزيع السلاح.
لا ينفي أحد في الناصري وجود سلاح بين أيدي مناصري تنظيمهم، ويُردّد هؤلاء ما يقوله أسامة سعد لكلّ من يسأله عن وجود السلاح: «حمل معروف سعد السلاح في عام 1936 مع الثورة الفلسطينيّة، وسلّح مجموعات لتُحارب في المالكيّة في عام 1948، ثم نقل السلاح للفدائيين في عام 1969 في سيارته النيابيّة، ثم قاتلت صيدا مع مصطفى سعد ضدّ الاجتياح الإسرائيلي. واليوم سنقطع أي يد تُريد أن تجعل صيدا مدينة مقفلة في وجه المقاومة». هذه الجملة سمعها الكثير من الرسميين وغير الرسميين الذين سألوا أسامة سعد عن حقيقة وجود سلاح مع التنظيم الناصري.
لكنّ الناصريّين يتحدّون أحداً أن يقول إنه رأى مرافقاً لسعد يحمل سلاحاً علنياً، «في المقابل، ينتشر مسلّحو آل الحريري من شرحبيل إلى كفرجرّة، في إطار «أمن القصر، ويحمل هؤلاء رخص سلاح من جهاز أمني رسمي، وقد أقدموا على الاعتداء على أحد الشبان في التنظيم الناصري، وضربوا شاباً كان يجلس مع صديقته في السيارة، ثم هدّدوا أحد أصحاب البساتين لأنهم ظنوا أنه من خارج صيدا».
لكنّ المستقبليين لا يرون الأمر على هذا الشكل. هم ينفون هذه الممارسات، ويعتبرون أن كلّ ما يقوم به أسامة سعد هو محاولة لاستعادة مجد خسره في المدينة، «فتوتّره سببه أن الرجل فقد المقعد النيابي والبلديّة والإطفائيّة حتى، وفي النهاية سينتسب إلى تيّار المستقبل كما وعده الشيخ أحمد الحريري».
وكان قد سبق اتهام التنظيم الناصري للمستقبل بتوزيع السلاح وبالتصرفات المليشيويّة، تحذير مستقبلي من التحرك الشعبي الاقتصادي الذي قام به هذا التنظيم في الشهر الماضي، إذ وزّعت بيانات في الشارع تتهم مناصري سعد بالتحضير لحرق الدواليب وإقفال الشوارع، وهو ما أدّى إلى تخوّف بعض المواطنين وعدم مشاركتهم في التحرك.
إذاً، ما يجري في صيدا هو حرب إعلاميّة بين التنظيم الناصري وتيّار المستقبل. كلّ فريق يسعى الى تسجيل نقطة على الآخر. كلّ فريق يُريد أن يتّهم الآخر بأنه «أزعر»، مع العلم بأن كلّ فريق لديه مناصرون متفلّتون مستعدون لحمل السلاح واستعماله. ويؤكّد عدد من المحايدين وبعض المتابعين الأمنيين في المدينة أن هذا الصراع ليس إلّا «همروجة إعلاميّة». ويلفت هؤلاء إلى أن الأوضاع غير مرشّحة للتطوّر على نحو سلبي لأن كلا الفريقين لا يُريدان ذلك. ومن هؤلاء المحايدين الشيخ ماهر حمّود (وهو يُعدّ في السياسة ملتزماً خيار المعارضة السابقة، لكنّ شقيقه، الدكتور ناصر، هو منسّق تيّار المستقبل في الجنوب)، يرى حمّود أن ما يجري في صيدا لا يتجاوز كونه توتيراً سياسياً لا يستأهل هذا الكلام الإعلامي. يُقارن حمود بين الطرفين، فيجد أن موقع سعد في المدينة أقوى خارج النيابة، لكنّه يلفت إلى أن الخدمات التي تُقدّمها النائبة بهيّة الحريري تجعل زعامتها في المدينة أثبت، «إذ إن أسامة سعد لا يستطيع دفع فاتورة مستشفى لمريض».
وعند البحث عن اللاعبين الأساسيين للمستقبل في صيدا عدا مساعدات الحريري الماليّة، يتبيّن أن الرئيس فؤاد السنيورة غائب عن الوجود، «يقولون إن لجنة تجار السوق يلتقونه من فترة إلى أخرى، لكنني لم أره منذ الانتخابات النيابيّة»، يقول أحد التجار
اتّهم التنظيم الناصري المستقبل بتوزيع السلاح وبالتصرفات المليشيويّة
المقرّبين من آل الحريري. ويظهر أن الدور الأساسي هو للأمين العام لتيّار المستقبل أحمد الحريري، إذ يحضن الرجل عدداً «من الزعران ويحميهم». هنا، يذكر الشيخ ماهر حمّود حادثةً جرت في 12 شباط 2006، حيث كان يجري اجتماع في منزل بهيّة الحريري بمشاركة فاعليّات المدينة الدينيّة والسياسيّة والأمنيّة، وفي الوقت عينه كان أحمد الحريري يعمل على تهريب أحد المقربين منه من أيدي استخبارات الجيش، «ولهذا السبب قاطع أسامة سعد الاجتماعات».
في الجهة المقابلة، يعمل التنظيم الشعبي الناصري وفق استراتيجيّة مختلفة عن تلك التي مارسها في السنوات الخمس الماضية، «فالدور التوفيقي والوسطي في المدينة واستيعاب زعرنات الحريريين لم يؤدِّيا إلى نتيجة إيجابيّة» يقول أحد المسؤولين في التنظيم. لذلك يؤكّد الرجل أن سعد يفتح أبواب المعركة إلى النهاية: هو يُعلنها مواجهة شرسة مع النهج الاقتصادي الذي جوّع الناس، «رغم أن حلفاءنا في الحكومة». ويعتقد الناصريّون أن هذه المعركة ستُخفف من مفاعيل السلاح الأساسي للحريري، «وهو التعبئة المذهبيّة».
وينوي سعد أن يُلغي القدسيّة التي خُلقت حول الرئيس المغدور رفيق الحريري، «فلماذا لا يحقّ لنا أن نُذكّر العالم بأن الحريري كان يملك ميليشيا في صيدا في ثمانينيات القرن الماضي، لحماية منشآت آل الحريري في صيدا، وأنها لم تُسلّم سلاحها عند انتهاء الحرب الأهليّة». إضافةً إلى أن التنظيم الناصري مصرّ على تأكيد موقعه في الصراع مع إسرائيل، «ونحن لسنا في وارد التنازلات في هذا المجال»، وقد سمع قائد الجيش، جان قهوجي، كلاماً واضحاً من سعد عندما زاره أخيراً: «سنقطع كلّ يد تمتد على سلاح المقاومة أو تُريد نقل مدينة صيدا من موقعها المقاوم إلى موقع آخر. وأعتقد أنكم لستم ضدّ هذا الأمر».
مكبّ النفايات يتطوّر: أصبح مكبّين
لا يُمكن الحديث عن صيدا من دون تذكّر مكبّ نفاياتها. ففي انتخابات البلدية عام 1998 التي تلقى فيها الرئيس الراحل رفيق الحريري صفعة قويّة، كان شعار الحملة الانتخابيّة لعبد الرحمن البزري حلّ مشكلة مكبّ النفايات في المدينة. يومها دفع الوليد بن طلال 5 ملايين دولار، ولُزّم المشروع مباشرةً لشركة الجنوب للإعمار التي يملكها رياض الأسعد. دُفع حينها مليون دولار ثمن تجهيزات، وبدأ الأسعد بتحضير شركته للعمل. لكنّ العقبة الأساسيّة حينها كان رفض بعض وزراء حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التوقيع على عدد من الأوراق اللازمة، ولم يتأمّن مكبّ بديل، ولم يكن معمل فرز النفايات جاهزاً. ملّ الوليد بن طلال واستاء، فأوقف التمويل.
وخلال معركة الرئيس فؤاد السنيورة النيابيّة، أعلن الرجل أنه أمّن 25 مليون دولار من السعوديّة لحلّ مشكلة المكبّ، ويتداول الصيداويون أحاديث عن وجود 20 مليون دولار على شكل تبرّعات وهبات.
كذلك الأمر في المعركة البلديّة لمحمد السعودي، فبعدما تخلّى السعودي عن أسامة سعد أعلن الرجل أن أول خطوة له ستكون إزالة مكب النفايات؛ ويتحدث المستقبليّون اليوم عن قرب تلزيم المشروع لشركة يملكها شخص من آل خوري.
لكنّ المشكلة الأساسيّة، هي أن معمل فرز النفايات الذي بنته بلديّة هلال القبرصلي، المقرّب من الحريري، لا يعمل حتى اليوم. ويجري تداول معلومات عن أن الماكينات الموجودة فيه لا تعمل؛ مثله مثل معمل معالجة الصرف الصحي، الذي جلّ ما يقوم به هو ضخّ المياه الآسنة إلى عمق 2 كيلومتر في البحر من دون معالجة. لذلك، فإن جوهر ما يجري التحضير له هو بناء سدّ يمنع انهيار مكبّ النفايات إلى البحر، وهو ما لم يكن يُفترض أن يكون خطوةً أولى، لكن لا يوجد في الأفق حلّ جدي بسبب عدم وجود مكبّ بديل، إضافة إلى تعطّل معمل فرز النفايات.
لكنّ الجديد في هذا المجال هو تحوّل مكبّ النفايات إلى مكبّين. إذ يزداد ارتفاع مكبّ جانبي إلى جنوب المكبّ الأساسي، وذلك بسبب عدم القدرة بالارتفاع عمودياً في المكب الأساسي. وترمى النفايات على قطعة أرض معبّدة بالباطون، جهزها الأسعد لوضع تجهيزات شركته عليها.
يُردّد الصيداويون اليوم نكتة مفادها أن الصراع السياسي أسهم في تطوير معلم مدينتهم الأساسي، أي المكبّ، فأصبح مكبّين.