بالرغم من كبر سنها، تخالها في العشرين من عمرها. تطلّ عليك بوجهها البشوش الذي تنبسط تعابيره ترحيباً بالقادمين، وبعينين تشعّان طيبة وذكاءً. تبدأ الأحاديث من تسقّط أخبار الجيران والاطمئنان إليهم، ثم تحدّثك عن آخر مريض عالجت كسر يده أو رجله أو ضلعه، ثم تنقلك إلى عالم السياسة وشؤونها، لتشعر أنك امام امرأة فريدة من نوعها علّمتها الحياة كل شيء وبات منزلها مقصداً للفقراء.
وصالحة الحلبي، أو أم علي كما يحبّ الأهل والجيران مناداتها، ابنة ذلك الزمن القريب الذي لم تكن فيه المرأة اللبنانية في الريف تطمح الى إتمام تعليمها. كان ذلك منذ عقود قليلة، عكس ما يظن الكثيرون. كل ما كان أمام تلك النساء، أن يخضن معترك الحياة الى جانب شريكهن وعائلاتهن، متسلّحات بذلك الشغف، بقوّة الإرادة وحبّ العمل في المجالات كلها وعلى الصعد كلها: إن في الحقول الزراعية، أو بالخياطة أو تربية المواشي أو بامتهان مهن عدّة. نصب أعين النساء إبعاد الفقر والعوز عن عائلاتهن، وهذا بالتحديد ما فعلته صالحة الحلبي. لم تعرف أم علي التي بلغت عامها الثامن والسبعين المدرسة إلّا في مراحلها الأولى، ولفترات متقطعة. لكنهان كما تصرّ على القول، تفكّ الحرف. وكانت، كأمها وجدّتها، تخرج مع الفجر إلى الحقول وتعود مع مغيب الشمس لإكمال يوم العمل في إنجاز الأعمال المنزلية وتربية الأولاد. عندما تقصد منزلها تلاقيك مرحّبة وهى تقلّم الورود التي تملأ غرساتها الباحة أمام دارها الجميلة، والتي باتت شغلها الشاغل، بالإضافة الى أعمال المنزل البسيطة، فعى أم علي أن تقلّل من أعمالها بعدما بلغت خريف العمر، ومع ذلك تراها لا زالت كسابق عهدها أيام الصبا، تنهض في الخامسة صباحاً وتبدأ نهارها بالطقوس الخاصة المرتبطة بشرب «قرعة المتي». قد يحمل لها اليوم جاراً أو جارة أو حتى أشخاصاً من القرى المجاورة، لتجبير كسراً أو فكشاً. يقصدها الجميع ويعرفها كل من زلّت به قدمه، أو كُسرت من جراء دعسة ناقصة. تربّت أم علي في بيت فقير، كان على الجميع فيه أن يعمل ليقيم أوده. ما زالت تذكر أنها لم تعش طفولتها كباقي الأطفال. كانت تعاني التعب والقهر منذ نعومة أظفارها. تروي السيدة بعد تنهيدة أنها كانت ترعى الماشية مع إخوتها، وأنها كانت أحياناً تضطر إلى النوم في الجبل، مع الماشية لعدة أسابيع في فصل الربيع، بعيدة عن منزل والديها. أخيرا، بلغت صالحة العشرين من عمرها. حينها تزوجت من مهنا صقر، الذي يبلغ اليوم عامه الثامن والثمانين. لم تتغير حياتها كثيراً بعد الزواج، فالفقر نفسه، والرضا بما قسمه الله لها، نفسه، حيث كانت عوناً لزوجها في الزراعة وحراثة الأرض والحصاد، ككل النساء هنا من «بنات الأصل». هكذا ربّت أم علي عائلتها المكوّنة من شابين وفتاة، بعدما فقدت ثلاثة من أولادها. ففي ذلك الوقت كانت وفيات الأطفال تأتي على أهون سبب. وكان الناس ينجبون كثيراً ليبقى لهم القليل. مات أحد أولادها في سن العاشرة وتوفي الآخر في الخامسة من عمره. تتنهد ثم تصمت كمن يتذكر، مكتفية بالقول: «الدهر بيك يوم الك ويوم عليك».
لكن، كيف أصبحت أم علي مجبّرة عربية؟ وهل لا يزال هناك الكثير من هؤلاء بوجود الأطباء والمستشفيات وانتشارها؟ تقول صالحة الحلبي: «عمّي حسن صقر كان مجبّراً عربياً معروفاً. بدأت أساعده في مهنة التجبير العربي التي ورثها عن والده، وتعلمتها منه، وعندما توفي عام 1952 وجدت نفسي مقصداً للعديد من الناس. فما كان مني إلا أن مارست هذه المهنة. لا بل أصبحت المجبّر الوحيد في المنطقة، يقصدني الناس من كل حدب وصوب». وتضيف «كنت أجبّر الكسور في اليد أو الرجل بالإضافة الى كسور الأضلاع، وكان المزارعون أحياناً يقصدونني لتجبير كسر ما في مواشيهم». ولا يتوقف رواج عمل أم علي على مهارتها فقط «سعيت دائماً إلى عمل الخير من خلال مهنة التجبير ولم أتقاض قرشاً من أحد لقاء عملي، لأنني لو تقاضيت لما عدّ ذلك لي حسنة، كنت أعرف الكسر والفكش من لمسة اليد، أعرف الداء وأصف الدواء، ولم يكن في أيامنا معدّات طبية لتصوير الكسور، أما اليوم فهو عصر الصورة» تقول ضاحكة. لكن هل غيّر ذلك شيئاً في طريقة عملها؟ تجيب«قديما كان يأتي إليّ المريض، فأضع له جباراً عربياً مؤلفاً من لوح خشبي ملفوف بشبكة من الخيطان، أما الأدوات التي كنت أستعملها فهي الصابون البلدي مع الماء الفاتر و«الشبّة» (مادة ناعمة تستعمل في المخللات) بالإضافة إلى البخور والمسك؛ تخلط حتى تصبح على شكل كريم، فتوضع على الكسر وتُلفّ بقطعة من الشاش. أما اليوم فيأتي إليّ المريض، أصحح له الكسر وأرسله الى الطبيب ليضع له الجفصين». ولا تنسى أن تخبرنا كيف يتعجب «الأطباء من عملي ويسألوني أين تعلّمت هذه المهنة، وحين أجيبهم يضحكون معلّقين: والله كان علينا أن نفعل مثلك بدلاً من أن نسافر ونتخصص ونتعب ونضيّع وقتنا». ثم تقول: «لكني أقول لهم اتركو لي الحسنة وخذوا أنتم المال، فأنا لا أقبل الهدايا من أحد، ومصدر رزقنا الوحيد هو ما نجنيه من موسم الزيتون في كل سنة، وما أتمناه الشفاء لكل من أتاني مريضاً وذهب سليماً معافى». لكن أم علي لم تعمل فقط في تجبير زلّات الناس، فقد اضطرت لتعمل داية نسائية في القرية حيث لم يكن ثمة مستشفيات قريبة. وتتابع «تعلمت هذه المهنة من جدتي وولد على يدي أطفال كثر، وبما أنني الداية الوحيدة، حين ولدت ابنتي لم أجد من يساعدني فقطعت حبل السرة بنفسي ولم أحتج الى أحد». وماذا عن زوجها في كل هذا؟ تقول: «زوجي كان يهتمّ بتربية الماشية لنبيع لاحقاً حليبها ولحمها، فالعنزات سلاسل ذهب». ممنونة هي أم علي من مشوار حياتها وأسلوبها. تقول «منذ عام زلّت قدمي فكسرت، ضمّدت جرحي وذهبت الى المستشفى لأجري عملية. حينها فقط شعرت بقيمة عملي، وبأن تعبي لم يذهب سدى، فقد بادلني الجميع بردّ الجميل وبلغ عدد المطمئنين إليّ 250 عائلة. أسعد أوقاتي أقضيها مع أحفادي حين يأتون إلي ويملاؤن عليّ المنزل. ما أطلبه لنفسي أطلبه للجميع، وأصلّي دائماً كي لا أغلب في نهاية العمر، وأن يرزقني الله بالآخرة الصالحة.
ضد السياسة
تتمنّى أم علي «أن أعلّم هذه المهنة لأولادي. لكن اليوم لا أحد يؤمن بالطب العربي والكل يذهب فوراً إلى المستشفى». وتقول: «عندما كان أولادي صغاراً كنت أضحّي بوقتي لخدمة الناس، أيام زمان كانت أفضل. كان هناك ألفة بين الناس وكانوا يحبون بعضهم بعضاً، أما اليوم فالسياسة والمال أفسدا كل شيء وأبعدا الأب عن ابنه.