بنت جبيل ــ لا يزال في مجدل سلم من يستمتع بمجوز محمد ملحم لإحياء السهرات القليلة في ساحات البلدة الصغيرة، فغالباً ما يدعو كبار السن ملحم إلى إطرابهم قبل الخلود إلى النوم، كما يقول أحمد ياسين «لا طاقة لنا على السهر، لكننا نشتاق إلى الدبكة اللي ما إلها طعمة من دون المجوز». وإذا كان صوت المجوز يذكّر الرجل السبعيني بماضيه الجميل وأعراس الضيعة منذ 30 سنة خلت، فإنّه الرفيق الدائم للعازف الأربعيني.
صباح كل يوم، يحمل ملحم مجوزه مصطحباً معه أغنامه التي يزيد عددها على المائة، إلى عمله في رعي الماشية. يسرح في الحقول القليلة الباقية، مطلقاً نفخاته الطويلة التي تروق لأغنامه وتتحول إلى موسيقى جميلة، على الأقل، على مسمع الجيل القديم.
يروي ملحم كيف «تعلّمت العزف بنفسي بعدما صنعت مجوزي الصغير بيدي من قشّ القمح القاسي. كان عمري 13 سنة، وكنت الوحيد بين أبناء جيلي الذي أتقنتُ الدق، فقد تأثّرت بوالدي الذي كان عازفاً معروفاً في ذلك الوقت».
لم تكد تمر ثلاث سنوات حتى تحولت الهواية إلى مهنة ثانية للشاب إلى جانب رعي الماشية وقد فاقت شهرته شهرة آخرين تركوا العزف بعدما طعنوا في السنّ. يقول: «يومها كانوا يستدعونني لإحياء الأعراس القروية، فأعزف طوال الليل وأتقاضى مقابل ذلك بدلاً مالياً كان كافياً لسدّ حاجات مادية كثيرة».
ويشرح كيف أنّ معظم الأعراس باتت تقام في المتنزهات والمطاعم، ويفضّل الجيل الجديد الدبكة على أنغام «الديدجاي» وإن كان ملحم يشارك في العزف مع الموسيقى الحديثة لأوقات محدودة على عكس السهرات القديمة التي كانت تعتمد على المجوز أساساً. يستطيع ملحم العزف على «المجوز» و«المنجيرة» و«اليارغول»، وهي آلات تشبه بعضها بعضاً، لكن أصواتها تختلف قليلاً، وهي تصنع يدوياً من القصب الصلب، فالمجوز مؤلّف من قصبتين ملتصقتين ومتساويتين في الطول، إحداهما مثقوبة.
أما «المنجيرة» فهي من قصبة واحدة مثقوبة، و«اليارغول» من قصبتين، لكن إحداهما أطول من الأخرى، وتتميّز بصوتها الناعم «الحنون» وهي من التراث الفلسطيني.
ويعتقد ملحم بأن «الدقّ على المجوز واليارغول هو الأصعب والأكثر عذوبة وطراوة، أما المنجيرة فكثيرون يستطيعون استخدامها لكن لا شعبية لها مثل المجوز واليارغول الذي كنّا نسمع صوته قديماً على الإذاعة الفلسطينية في الأغاني الوطنية».
يتحمس الرجل للقول إنّه هو مَن صنع المجوز الخاص به، من قصب النهر، وألصق القصبتين بشمع النحل، وهو يحتفظ به منذ 14 سنة، ولديه مجوز آخر يزيد عمره على 40 سنة. ويضيف «منذ انطلاقتي كانت موسيقى الأعراس والحفلات هنا مقتصرة على دقّ المجوز، إلى أن دخل الطبل مشاركاً المجوز في العزف، لكن اليوم لا مكان للاثنين».
لم يعد عازف المجوز اليوم صاحب مهنة منتجة، كما كان في السابق، إذ يذكر ملحم كيف كان والده مثلاً يحصل على 5 ليرات بدل العزف في الأعراس، و«كان مبلغ محرز وقتها».
ويعزو السبب إلى أنّ المجوز كان الآلة الوحيدة في إحياء الأعراس، «فنستخدمه طوال السهرة إلى حين انتهاء العرس، لذا كانوا يدفعون لنا أجرة كبيرة، أما اليوم فلا يحتاجون إلينا إلّا لوقت قصير، وفي بعض الأعراس تكون الأجرة قليلة، وفي أحيان كثيرة نتطوع فلا نقبض شيئاً».
«وحدهم الفقراء يستدعوننا هذه الأيام لدقّ المجوز»، يستدرك ملحم. والسبب؟ يقول: «هم يحيون أعراسهم في المنازل حيث يحاولون التخفيف قدر المستطاع من مصاريف الزواج والفرح».
لا يخفي عازف المجوز كيف أنّ بعض قرى البدو في الجنوب لا تزال تفضّل الدبكة في الأفراح على المجوز. وهو لا يزال يذكر جيداً حادثة حصلت معه في إحدى قرى قضاء صور الحدودية حيث طلب منه أن «يدق» المجوز في أحد أعراس القرية. يومها، كان في الرابعة عشرة من عمره، فذهب إلى المكان قبل يوم واحد من العرس، وبدأت الدبكة عصر هذا اليوم واستمرّت حتى طلوع الفجر، وفي الصباح الباكر استأنف الأهالي العرس، فاضطر إلى البقاء حتى المغيب، أي إنّه أمضى أكثر من 24 ساعة، وهو يعزف.
هكذا ذاع صيت ملحم في أماكن بعيدة، في بعلبك، ومرج الزهور وقرى وبلدات الجنوب كلّها، لا سيما تلك التي اعتاد أهلها عادات البدو، مثل أم التوت والقليلة والإسماعيلية وغيرها.
يعود الرجل بالذكريات إلى أجواء تلك الأعراس التي كان يصل فيها الليل بالنهار، وتعقد حلقات الدبكة على المجوز و«المنجيرة» ويرتدي الكبار والشباب على حد سواء الحطّة والعقال. أما اليوم «فالشباب لا يهتمون لعزفنا»، يقول ملحم بحسرة، «وإذا توقّفت أنا وزميل لي اسمه أسعد سعد من بلدة حاريص عن العزف، فستندثر عادة دقّ المجوز في الجنوب كلّه، فالجيل الجديد يستصعب إتقان المهنة والتفنن في العزف، على الرغم من أن البعض حاول تعلّمها». يضيف بثقة: «على كل حال القصة مش هيّنة وبدها نفَس طويل، فتحريك الأصابع مع العزف بالتناغم مع الموسيقى شي كتير دقيق».
ما يحز في نفس ملحم تجاهل الشباب لهذه المهنة التي تندثر يوماً بعد يوم. فهو يشجعهم على التعرف إلى هذه الآلة التراثية التي تعزز لديهم الروح الجماعية والحماسية، لكون المشاركين في الدبكة هم الذين يطلقون الأغاني على أصوات المجوز، بعكس الدبكة على الموسيقى الحديثة. ويلفت إلى أنّ «معظم الذين أتقنوا دقّ المجوز هم من رعاة الماشية، فهؤلاء يسرحون في الحقول وحدهم مع الماشية ويأنسون للعزف وجمع ماشيتهم حولهم، لكن ما يحصل الآن هو أن عدد الرعاة انخفض كثيراً، ولا من يهتمّ بتربية الماشية في عدد كبير من البلدات، حتى إن أبناء بلدتي تركوا هذه المهنة التي لم يبق من أصحابها هنا إلّا نحو عشرة أشخاص».
يذكر ملحم سبباً آخر لانقراض المهنة هو اجتياح الباطون للقرى والبلدات، فلم يعد هناك مساحات شاسعة للطبيعة خالية من السكان، لذلك تدنّت جداً أماكن رعي الماشية، فبتنا نمشي مسافات طويلة بحثاً عن الحقول المباحة لرعي ماشيتنا، فكيف لا يتدنّى عدد المهتمين برعي الماشية؟ وكيف سيبقى للمجوز صدى لدى أصحابه ليتفنّنوا في العزف عليه؟».
--------------------------------------------------------------------------------
صحبة الدبكة
جمع عازف المجوز محمد ملحم حوله العديد من الأصدقاء الذين يهوون الدبكة في القرى والبلدات الجنوبية، وهم يُستدعون معه إلى السهرات الخاصّة، حتى إنّ كثيرين ينصحون مقيمي الأعراس بضرورة دعوة هؤلاء «لتحلا السهرة». يقول ملحم: «بتّ مع هؤلاء الصحبة نمثّل فرقة متخصّصة بالدبكة على المجوز، فنُدعى الى الأفراح لنحيي الدبكة معاً».