أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

إقليم التفاح في «عزلة صحيّة»

السبت 08 كانون الثاني , 2011 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,320 زائر

إقليم التفاح في «عزلة صحيّة»
سوزان هاشم

على الطريق الفاصلة بين بلدته والمستشفى، فارق زوج مريم سعادة الحياة. بضعة كيلومترات فقط كانت السبب في خسارة العائلة معيلها الوحيد، كأنّ تفاهة هذا السبب لا تكفي، حتى تضاف إليه تفاهة أخرى: عدم وجود مركز استشفاء، أو حتى فرق إسعاف في البلدة التي تعيش على هامش الحياة.
مات هو، وقبله مات كثيرون على تلك الطريق التي تفصل بلدته، اللويزة الجنوبية الواقعة في إقليم التفاح، عن أقرب مستشفى. هناك، في البلدة النائية عن كل شيء، تستقبلنا الأرملة مريم سعادة بلباس الحداد الأسود وعكّاز لا تفارق يدها. تروي حكاية الزوج الذي مات جرّاء إصابته باختناق رئوي أثناء نقله في سيارة أحد أبناء البلدة، بعدما تعذّر مدّ رئتيه بالأوكسيجين. لم يكن في وسع هؤلاء إمداده بـ«النفَس»، وهم أصحاب النخوة، وقد حاولوا عبثاً أداء دور فريق الإسعاف الغائب كلياً عن تلك المناطق، كما مراكز الاستشفاء.
مثلما توفي زوج مريم نتيجة الغياب شبه التام للخدمات الصحية في البلدة ولفرق الإسعاف، أصيبت هي الأخرى بعد حين، نتيجة الاستهتار عينه، بعاهة دائمة. فبعدما تعرّضت رجلها لكسور جرّاء حادث منزلي، استعانت بأحد أصحاب السيارات المارة لنقلها إلى أقرب مستشفى، إلّا أن استعانتها بفاعل الخير أتت عليها بالويلات، نتيجة «طريقة النقل الخاطئة»، تقول. وتضيف «هذا ما قاله لي الطبيب، إذ سبّبت تلك الطريقة لي التهاباً في عظام الورك». هكذا، «باتت العكاز واللباس الأسود، الرفيقين اللذين لن يفارقا دربي».
حال سعادة لا تختلف في شيء عن أحوال الكثيرين الذين يقطنون في قرى الريحان ـــــ إقليم التفاح، إذ لا تتوافر في تلك القرى مراكز استشفائية، أو في أحسن الأحوال إن وجدت فهي تبعد عنها عشرات الكيلومترات. وقد أدى الغياب إلى تدهور حالات المرضى والمصابين في تلك القرى جرّاء المسافة الطويلة وعدم وجود فرق إسعاف في معظم تلك البلدات، إذ «ريثما تصل سيارة إسعاف من أقرب مستشفى إلى البلدة تكون حالة المريض قد تدهورت وساءت، هذا إذا استطاع المستشفى أن يلبّي النداء مباشرةً»، كما يلفت داوود مقلّد. وينتقل ابن بلدة جرجوع إلى الحديث عن تجربة «مرعبة» عاشتها العائلة مع حفيده ورد مقلّد، الذي أصيب بنوبة كهرباء في رأسه، ودخل في غيبوبة نتيجة تأخّر إسعافه. هكذا، نجا الطفل من الموت بأعجوبة، «ولولا العناية الإلهية كان راح الصبي من بين إيدينا»، يضيف. لكن، ماذا عن المستوصفات هنا؟ يجيب مقلّد «متل قلّتها، أصلاً ما بيكون عادةً فيها دواء، دايماً فاضية والطبيب مش دايماً موجود، وأساساً أبوابها ما بتفتح إلّا لساعات محدودة بفترة قبل الظهر». ينتقل مقلّد إلى الحديث عن سيارات الإسعاف في بعض قرى الريحان التي «لا تصلح إلّا لنقل الموتى إلى المدافن». ويبرّر قائلاً «هذه الآليات مجرّد سيارات للنقل، فهي غير مجهزة للمرضى والمصابين، لافتقارها إلى المعدات اللازمة، كذلك فإن جهازها البشري غير مؤهّل لتولّي عملية نقلهم». يكمل «وعادةً بتكون سيارات إسعاف تشتريها العائلات لنقل موتاها». والدليل يثبته الجالس إلى جانبه إبراهيم فرحات بمثالٍ عن حال «جارنا محمد فرحات، الذي سبّب نقله الخاطئ وعدم تلقّيه الإسعافات الأولية اللازمة شللاً دائماً في رجله، ليصبح مقعداً مدى الحياة».
«عملية نقل المصاب لا يمكن أن تجري بهذه العبثية»، يشرح لنا الناشط الصحي والمسعف غالب هاشم من بلدة اللويزة، متابعاً «فاللحظات الأولى تعدّ الأهم في حياة أيّ مصاب نتيجة حالة صحية طارئة، من حيث كيفية العناية به وإسعافه، وأيّ خطأ بسيط في نقله أو مساعدته قد يقتل المصاب، ويزيد حالته الصحية سوءاً، أو يسبّب شللاًً في أحد أطرافه». وأشار هاشم إلى أنه «لا أحد يمكنه أن يتولّى هذه العملية، إلا إذا كان يعمل ضمن فريق متخصص يتقن فن الإسعاف»، مؤكّداً ضرورة وجود مركز إسعاف متخصص في المنطقة يعمل على مدار 24 ساعة، ويكون مستعداً لاستقبال أيّ حالة، وخصوصاً أن «قرانا بعيدة عن المستشفيات، وطرقاتها غير سالكة في الشتاء بسبب الثلوج».
هذه الحاجة أظهرتها جمعية «الصليب الأحمر اللبناني» في دراسة أعدّتها قبل سنوات. وقد لفتت الجمعية إلى أن «22 بلدة في إقليم التفاح ــــ الريحان في أمسّ الحاجة إلى مركز متخصص يقوم بأعمال الإسعاف». ولهذا السبب، أعدّت الجمعية خطة تقضي «باستحداث مركز جديد للصليب الأحمر». لكن هذه الخطة «جُمّدت، على الرغم من تقديم بلدية جرجوع مبنى إلى الجمعية»، يقول أحد الناشطين في الصليب الأحمر. أما السبب، فيعود إلى عدم توافر الميزانية، «لأنّ مشروعاً كهذا يتطلب توافر ميزانية كبيرة تفوق ثلاثين مليون ليرة سنوياً. ورغم أننا تقدّمنا بطلب إلى وزارة الصحة لرفع الميزانية المخصصة للجمعية من أجل تجهيز المركز وتجنيد فريق متخصص، إلا أننا حتى الآن لم نلقَ سوى وعود ووعود».
إلى أن تزيد وزارة الصحة الميزانية، «بيبقى الواحد بيموت عالطريق»، يتابع الناشط الذي رفض الكشف عن اسمه. وفي هذا الإطار، «بيموت على الطريق سنوياً أكثر من شخص نتيجة المضاعفات التي يتعرض لها، في ظل غياب الرعاية والإسعاف اللازمين»، يقول حاتم الشامي، رئيس بلدية جرجوع. وأكثر من ذلك، يقول الشامي «إنّ هذه المناطق تفتقد أساساً أيّ شكل من أشكال الخدمات، ولا سيما الصحية منها، وإن وُجد بعضها فهو عبارة عن مراكز صحية بدائية تفتقد الأجهزة أو الكادر الطبي المفروض توافره للقيام بمهمّاته، وتلبية حاجات الناس». أما المطلوب، فهو «ضرورة توفير هذه الخدمات في المناطق البعيدة عن المدن، وإلّا «فالموت شغّال».

Script executed in 0.1786801815033