أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

الأسواق الشعبية .. فسحة للتلاقي والتواصل الاجتماعي

الخميس 13 كانون الثاني , 2011 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 6,389 زائر

الأسواق الشعبية .. فسحة للتلاقي والتواصل الاجتماعي

 فإن الملفت حاضراً أن ذلك السواد، قد تمدّد، فاتسع شاملاً جلّ مكونات المجتمع، معدومة أو ميسورة كانت. لأن غول الغلاء الفاحش، وشبح الأزمات الإقتصادية المتراكمة، والفقر والإفقار والخوف من الآتي، قد تضافرت كلها فنجحت في صنع توليفة، جمعت بين فئاتٍ كانت متباينة حتى الماضي القريب، وفق مسميات إتبعت سُلـّم التقويم المادي، ومقياس القدرة على التحمّل.
والقاصد المستطلع للأسواق الشعبية، الضاربة في طول البلاد وعرضها، يرى بأم العين تكدّس زوّارها الآتين من كل حدب وصوب، وإختلاط الحابل بالنابل، والشاري بالبائع، والمتباطئ بالمستعجل، وفق سمفونية غريبة عجيبة.
نشأة الأسواق الشعبية
أمّا نشأة الأسواق الشعبية فتعود الى قرونٍ سالفة، يمكن من خلال استعراض تاريخها، بتجزئته الى مراحل أساسية ثلاث. فالبداية كانت تجمعاً من تجّار المواشي والأقمشة، وأصحاب الحرف اليدوية والصناعة البدائية والزراعة، والباحثين عن حاجة ما. وذلك لتبادل السلع ومقايضة المتوفر بغير المتوفر. ثم تحوّلت الى تجمّعٍ أوسع للتجّار، وصنوف أكثر من البضائع، وأعداد أكبر من الساعين والباحثين عن السلعة الأرخص، بقصد التوفير ومداراة ضيق الحال والأحوال. حتى اكتمل المشهد أخيراً ووصلت الأسواق الشعبية الى ما هي عليه اليوم. حيث باتت محطاتٍ أسبوعية بالغالب، تأخذ شكل السوق الكاملة المتكاملة، من حيث التنوع والتعدد والازدحام والأخذ والردّ. وتكون مقصداً لطلاّب الحاجة، وطلاّب تمضية الوقت على السواء.
على مدار الأسبوع
تعددت تلك الأسواق، بتعدد أيام الأسبوع في البقاع الغربي وراشيا. حتى بات انتشارها مفصلاً هاماً وناظماً للدورة الاقتصادية في المجتمع البقاعي، على اختلاف شرائحه المستهلكة والمنتجة على السواء. فبلدة المرج التي تتوسط البقاع الغربي،عُرفت بسوقها الشعبية التي تُقام كلّ إثنين، منذ قرابة التسعين عاماً. وهي تعدّ من كبرى الأسواق الشعبية وأوسعها، ليس في البقاع فحسب، إنما في كل لبنان. بالنظر لاحتوائها على كل ما يحتاجه قاصدها، من أصناف الخضار والحبوب واللحوم والمواد الغذائية، الى أنواع الأقمشة والألبسة والأدوات المنزلية والتجهيزات على أنواعها. أمّا سوق بلدة جب جنين مركز القضاء، فقد استبدل موعدها من كل خميس الى كل سبت، فلا تقل أهمية عن سواها، خصوصاً وأنها ما تزال تحتل فسحة واسعة، محجوزة لتجارة المواشي واللحوم، بيعاً وشراءً ومقايضة. ولسوق سحمر حصة يوم الجمعة، ولبلدة غزة البقاعية يوم الخميس، أمّا الأحد فلسوق مجدل عنجر ومنطقة المصنع.
أما على المقلب الشرقي لراشيا ووادي التيم، فتحتكر الساحة سوق ضهر الأحمر، المسمّاة بسوق الأربعاء. وهي من الأسواق العريقة والقديمة العهد. حيث أن تاريخ نشوئها غير معروف على وجه التحديد. إنما الثابت بشهادة المعمّرين والمؤرخين المحليين، أن إنشاءها يعود الى ما قبل العام 1925. حيث شكّلت في يومها نقطة التقاءٍ ووصلٍ للتبادل التجاري، بين تجّار فلسطين والشام ولبنان. الى أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، فتقطعت أوصال الوطن، إذ حوّلتها إتفاقية سايكس ـ بيكو الى سوق محلية، يرتادها قاطنو منطقة وادي التيم وجوارها فقط.
فسحة للتعارف
وإذا كانت الأسواق الشعبية قد شكـّلت وما تزال، فسحة فرج ٍ لقاصديها. فإنها ما تزال تختزل أيضاً، الذاكرة التي تحفظ بعض أصالة وتراث مجتمعنا. إن تلك الأسواق لم تعد حكراً على عمليات البيع والشراء فحسب. بل شكـّلت حالة إجتماعية، سمحت بالتلاقي والتعارف والتواصل بين جميع مرتاديها، حيث تكشّفت عن أمتع اليوميات وأجملها. هذا بخلاف الداخل الى أسواقنا المعاصرة والحديثة، الذي لا بدّ له أن يشعر ببعضٍ من الغربة، إلاّ من كان غريباً. حيث تغيّرت أصوات الباعة وأشكال البضائع المعروضة، كما تبدلت اللهجات واللكنات واللغات. أما الوجوه فتلوّنت وإزدادت بريقاً، إلاّ أنها خلت من مسحة الروح المشرقية المشعّة.
هل سيُسمح لها بالاستمرار؟
أما السؤال المطروح بشدة الآن، فهو: هل أن الأسواق الشعبية، سوف تلقى يوماً ما مصيرها المحتوم والمحكوم بالزوال، أسوة بكل ما اندثر وذهب من تاريخنا وتراثنا وتقاليدنا. أم انها ستصمد، لا بل ستزدهر وتنمو ويعلو شأنها في القادم من الأيام؟
لعلّ الجواب يقبل الوجهين، ولكلٍ حجته وأسبابه. فأن تزدهر تلك الأسواق وتعود الى بريقها. فهذا أمر جدّ وارد، في ظل غلاء الأسعار المجنون الذي لا يجد من يوقفه أو يردعه. والذي سيتسبب بخلق نمطٍ من الهروب الجماعي نحو تلك الأسواق، التي لا بدّ أن تبقى أرحم وأقلّ قسوة مهما طارت الأثمان وعلت قيمها.
وأن تزول تلك الأسواق وتصبح شيئاّ من الذاكرة، فذلك وارد إيضاً، إذا ما كان هنالك قرار بالتجويع والتهجير الجماعي، أو بالامتناع عن الترخيص لما هو دون مستوى «سوليدير» وروّادها، والله أعلم.

Script executed in 0.17346596717834