أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

الطائرة الإثيوبية: سنة أولى

الجمعة 21 كانون الثاني , 2011 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,138 زائر

الطائرة الإثيوبية: سنة أولى

صور ــ من المنتظر اليوم، أن يتمالك هيثم الأرناؤوط نفسه ليتمكن من الوقوف على منبر جمعية حلاوي الخيرية في صور، ليرثي ابنه البكر مصطفى (24 عاماً)، في الذكرى الأولى لوفاته على متن الطائرة الإثيوبية. ويفضّل الرجل أن يرتجل كلمته ليس لأنها نابعة من حرقته الدائمة على ولده فقط، بل أيضاً لأن عينيه لم تعودا تسعفانه على رؤية الأشياء من حوله جيداً. فالقهر والبكاء طوال عام كامل أصابا بصره الذي بدأ ينطفئ تدريجاً حتى لم يعد قادراً على الرؤية أكثر من نسبة 30 في المئة في كلتا عينيه، اللتين أجرى فيهما عمليات جراحية عدة.
لكنّ أبا مصطفى لم يصرف الفترة الماضية بالحزن على ابنه فحسب، بل إنه حمل قضية الطائرة، وتولّى رئاسة لجنة أهالي ضحاياها للتوصل إلى كشف الحقيقة، إلّا أن جولاته المكوكية التي شملت جميع المسؤولين المعنيين، لم تتمخض إلّا عن عشرات الملفات التي تمثّل أرشيفاً عن حوادث الطيران وقوانين السلامة العامة والاتفاقيات الدولية من جهة، وعن التعاطي الرسمي من جهة أخرى. وفي المحصّلة، يؤكّد الأرناؤوط أنّ «جميع الوعود لم تنفّذ، بل كانت استعراضاً إعلامياً»، مستذكراً لجنة التحقيق التي وعد رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري بتأليفها. أما التقرير الأوّلي الذي وعد وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي بإصداره وإطلاع الأهالي عليه في غضون ثلاثة أشهر، «فلم نتبلّغ عنه شيئاً» بحسب الأرناؤوط.
بعد اليأس من الداخل، حاول الأرناؤوط الطلب إلى لجنة التحقيق الفرنسية، إعلامه بنتائج التحقيقات التي توصلت إليها «لكنها أعادتنا إلى السلطات اللبنانية المخوّلة وحدها الاطلاع عليها»، حتى إن وزير العدل «رفض التعاطي مع اللجنة لأنها لا تحمل صفة رسمية»، مقترحاً عليها «التحول الى جمعية عمومية لتتمكن من متابعة الملف مع الجهات الرسمية».
عودٌ على بدء، في لبنان، التقى الأرناؤوط قبل حوالى شهر وزير الإعلام طارق متري «بعد وساطات عدة وعدم استجابة من رئاسة الحكومة والوزارات المعنية لمراسلاته»، وتبلّغ أن الفريق اللبناني سيُستدعى الى فرنسا في 24 من الشهر الفائت لتبلّغ التقرير، حيث تحفّظ عليه الفريق الإثيوبي. وأخيراً، أعلن أن التقرير سيعلَن أواخر الشهر الجاري. في كل الأحوال، يعرب الأب عن تشاؤمه المسبّق إزاء نتيجة التقرير التي يظن أنها «لن تفصح عن الحقيقة كاملة، إلا أننا لا نملك القدرة كعائلات على إثبات العكس باستثناء خبير حوادث الطيران الذي تسلّم الملف». واللافت أنه كان قد قدّم طلباً في شهر تشرين الأول الماضي، الى قاضي الأمور المستعجلة ينص على إعطاء الإذن لحوالى 300 غطاس لبناني لكي يغطسوا في مكان سقوط الطائرة بحثاً عن ركامها، إلا أن الطلب لم يبتّ.
لكن التقرير المرتقب لن يعيد الأحبّة، كما أنه لن يعيد البصر الى عيني أبي مصطفى، والفرح الى أسرة خضر الفران. فالأخير الذي فقد زوجته هيفاء (45 عاماً) في الحادثة، يحاول من دون جدوى أن يعيد الحياة الطبيعية إلى أولاده الستة، الذين تراوح أعمارهم بين السادسة والعشرين والاثني عشر من العمر. هؤلاء لا يريدون الخروج من أجواء الحداد، فيواظبون على زيارة قبر والدتهم عصر كل يوم، ويتفقّدون صورها الضخمة المنشورة على جدران المنزل والشرفات.
أما تمام سقلاوي (أم ياسر مهدي) التي خسرت وحيدها (24 عاماً)، فيزداد يقينها بعد مرور عام على الحادثة، بأنها «تعيش فقط بانتظار الموت». رحلة الشاب الأخيرة الى المطار نحو أنغولا، تعثّرت ثلاث مرات حتى تشاءم أصدقاؤه وصادروا منه جواز سفره لمنعه من الالتحاق بالطائرة، لكنّ ياسر التحق بالرحلة قبل أن يقفل عائداً الى بلدته بعد شهر ويوم واحد في 26 شباط، تاريخ دفنه في ثرى رأس العين، إلى جانب ابن البلدة الضحية الثانية خليل مدني.
مأساة عائلتَي مهدي وأرناؤوط تتخطى بلدات دير قانون ورأس العين وصور لتصل الى كل عائلة لديها شاب اضطر إلى السفر الى أفريقيا لتحسين ظروف المعيشة. ففي التاسعة عشرة من عمره، استبدل ياسر وطنه بأنغولا مقابل 500 دولار أميركي، ليتمكن من رعاية شقيقاته الثلاث ووالدته، التي عملت لسنوات لتنفق عليهم. تغرّب الشاب طوال خمس سنوات استطاع خلالها شراء منزل للعائلة في مسقط رأسه، قبل أن يستكين أخيراً.
أحداث ساحل العاج التي أجبرت مئات اللبنانيين على اللجوء الى وطنهم، زادت من حسرة عائلات ضحايا طائرتي إثيوبيا وكوتونو، لكن هذه الأحداث لم تمنع مئات الجنوبيين الشباب من الارتحال الى الاغتراب الأفريقي، رغم أنّ شركة طيران الشرق الأوسط نكثت بوعدها في البدء بتسيير رحلات منتظمة، تغطي معظم تلك الدول. حتى بالنظر الى الأحوال الاقتصادية لبعض ضحايا الطائرة «الإثيوبية»، يتبيّن أنّ وفاتهم لم تؤثّر معنوياً في عائلاتهم فحسب، بل قلبت الأوضاع رأساً على عقب بين الموظفين منهم والمعيلين الوحيدين، وخصوصاً في ظل تأخر بتّ التعويضات. فالضحية محمد بزوني، الوالد لطفلين، كان قد باع بيته قبيل عودته الى أفريقيا لتأسيس مشروع اقتصادي جديد بثمنه، فضاع كل شيء معه. وكان من بين الضحايا الجنوبيين، تسعة شبان تقل أعمارهم عن الثلاثين عاماً، غادروا الى أفريقيا لإعالة عائلاتهم، وهم مصطفى أرناؤوط ومحمد عكوش وياسر مهدي حمزة جعفر وحسين بركات وعماد حاذر وسعيد زهر ومحمد قاطبي وحسن كريك.
مع ذلك، فإن تلك الضربات على قسوتها «لا تردع عن أفريقيا» بحسب شقيقة ياسر، رشا مهدي، التي أصبحت معظم أسرتها في أنغولا بدافع العمل.

Script executed in 0.16570687294006