هدوء معتاد استفاقت عليه قرى إقليم الخروب أمس. محال تفتح أبوابها في مواعيدها، وباصات تقلّ التلامذة إلى مدارسهم بعد يوم عطلة قسري. لا مظاهر تدلّ على أن المنطقة «غضبت» أول من أمس. لولا بقايا حريق الدواليب عند الطريق الساحلي، والتي غسلتها مياه الأمطار أمس، لما شعر زائر الإقليم من بوابة برجا بأن هذه المنطقة كانت معنية بالتطورات السياسية الأخيرة. بل إن اللافتات المعدودة على أصابع اليدين، التي تدعم بقاء سعد الحريري رئيساً للحكومة، إضافة إلى صور خجولة للأخير علّقت على أعمدة الكهرباء، لا تدلّ إلا على أمر واحد: يبدو أن أهالي المنطقة لم يسمعوا بالدعوة إلى يوم الغضب، فلم يلبّوا النداء.
استنتاج متسرّع. لا يكفي المرور ببرجا، البرجين، بعاصير، دلهون، سبلين، المغيرية، إلخ. للتوصل إليه. يجب استطلاع الوضع في كترمايا: مركز ثقل تيار المستقبل. عبارة يكرّرها أبناء قرى الإقليم السابق ذكرها، إلا أنهم يرفقونها بنصيحة: «لا تذهبوا إلى هناك. أبناء كترمايا لا يملكون أعصابهم».
إنها لعنة جريمتَيْ أبو مرعي ومسلّم، ترافق كلّ إشارة إلى هذه البلدة، وإلى أبنائها. ويبدو أن أبناء كترمايا يدركون الأثر الذي خلّفته هذه الجريمة على سمعة بلدتهم، فتراهم يتصرّفون بطريقة مغايرة تماماً. ظهراً كانت الحركة طبيعية، وأمكن التقاط الصور في ساحتها من دون اعتراض من أحد، حتى قبل الحصول على إذن من رئيس البلدية، يحيى علاء الدين. الأخير، كان يشرح عبر الهاتف لأحدهم كيف سارت الأمور أول من أمس، من أجل إنهاء الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة. يطلب عدم الإشارة إلى ما سمعناه من حديث هاتفي، مبدياً في الوقت نفسه استعداده للإجابة عن أي سؤال.
هو ردّ الفعل نفسه في كلّ القرى. من يرغب في الحديث لا يتردّد في ذلك، وإن لم يستطع إخفاء انفعاله أو حذره. هنا، حيث لا وسائل نقل عامّ، كلّ سيارة عابرة يمكنها أن تقلّ مواطناً من قرية إلى أخرى، تشهد حواراً سياسياً يعلّق فيه الأهالي على ما حصل. حوار يبدأ بالتعبير عن «فوَران الدم السنّي وتقديمه لعيون الشيخ سعد»، ويمرّ بالحديث عن «الكره الشيعي للسنّة الذي يعود إلى 1400 سنة»، لينتهي إلى القول: «ما به نجيب ميقاتي؟ سنّي ووطني. نحن نريد أن نعيش».
في ساحة البرجين، صورة أخرى. هنا سيدتان تتحدثان ضاحكتين. تجيبان بحذر عن الأسئلة، وعندما تتحمسان، تقول الأولى إنها تناصر تيار المستقبل وتعلن الثانية أنها تحبّ «السيّد حسن». هما لم تشاركا في الاحتجاجات «ولم تشهد بلدتنا أي تحرّك، الشباب المتحمّسون ذهبوا إلى كترمايا».
هناك من لم يذهب إلى أي مكان، إلا أن هذا لا يعني أنه موافق على «الانقلاب» الذي تعرّض له الرئيس سعد الحريري. تقول سيدة من برجا: «ما حصل غير مرض. حتى لو وافق سعد الحريري عليه نحن لا نوافق. نحن ساعدنا حزب الله كثيراً ودعمنا المقاومة. نريد منهم اليوم أن يدعمونا. نريد أن نعرف من قتل رفيق الحريري».
هذه المواقف لا تختصر واقع الإقليم حيث تفعل التراكمات فعلها عند كلّ استحقاق. تراكمات لا ترتبط فقط بالخلاف المذهبي التاريخي بين السنّة والشيعة، الذي يجري العمل على تغذيته اليوم، بل أيضاً بالوضع «الهامشي» الذي يشعر أبناء إقليم الخروب بأنه بات قدرهم، والذي يستعيدونه عند كلّ استحقاق. هذا ما يمكن تلمّسه في روايات الأهالي لما حصل في اليومين الفائتين، التي يمكن تقسيمها إلى جزءين: ميداني وسياسي.
ميدانياً، على الرغم من حماسة بعض الشبان، لم تأت الحركة الاحتجاجية بحجم يتناسب مع دعوة إلى «يوم غضب» يوجهها «زعيم الطائفة». وهو أمر يعترف به الأهالي إلا أنهم يردّونه إلى سببين: الأول أن الحركة الاحتجاجية في الإقليم لن تؤثر سلباً إلا على أهل الإقليم «هل نحرق الدواليب ونقفل الطرقات على أنفسنا؟». والثاني اقتناع بلا جدوى التحرّك «ماذا سيغيّر نزولنا إلى الشارع؟». لذلك يقتصر الحديث في هذا الجانب على سرد يوميات التحرّك الذي أمكن ضبطه، والانتهاء منه بدعوة المحتجين إلى مركز منسقية تيار المستقبل في كترمايا... حيث دار الحوار السياسي.
سياسياً، كان أهالي الإقليم يترقبون الموقف النهائي لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. صحيح أنه أعلن وقوفه إلى جانب سوريا والمقاومة، إلا أنهم كانوا لا يزالون يعوّلون على عدد الأصوات التي سيجيّرها للرئيس المكلّف نجيب ميقاتي. أبناء الإقليم كانوا يأملون لو أن جنبلاط أفسح المجال لابن «ملّتهم» علاء الدين ترو ليعبر عن موقف الطائفة. هنا تختلف الآراء بين من يؤكد أن «علاء تعرّض للضغوط. هو رئيس النادي الاجتماعي في برجا، والنادي نشر لافتات في برجا تؤيد سعد الحريري فكيف يصوّت لمصلحة ميقاتي؟» يقول أحدهم. وبين من يتفهّم الموقف: «بالنهاية علاء رجل حزبي وعليه أن يلتزم قرارات حزبه». لكن هذه الحجة لا تقنع كثيرين، إذ ينقل عن أحد المشاركين في لقاء المنسقية أنه قال: «لو كان ترّو حزبياً لطبّق مقولة كمال جنبلاط: إذا خُيّرت بين حزبك وضميرك فاختر ضميرك».
لكن موقف ترّو تفصيل صغير في مشكلة أكبر هي موقع الطائفة السنية في الشوف. فعلى الرغم من حجمها الانتخابي الكبير، الذي يصل إلى نحو 50 ألف صوت، تجد نفسها غير قادرة على الفكاك من كماشة جنبلاط الذي يحظى بأغلبية نحو 50 ألف صوت درزي. التشتت الذي تشهده أصوات أبناء الطائفتين السنية والمارونية (نحو 50 ألف صوت أيضاً) يجعل من جنبلاط القوة المرجحة التي تختار نواب المنطقة. لهذا يتفهم كثيرون موقف ترّو، إلا أنهم لا يتفهّمون تخلّي قيادة طائفتهم عنهم، لا في الاستحقاقات السياسية فحسب، بل في الوظائف العامة «على الرغم من أن أبناء الإقليم منخرطون بكثافة في إدارات الدولة، لا تجد موظفين منهم في الفئات الأولى. كل المواقع السنية تذهب إلى أبناء بيروت، صيدا وطرابلس». المشكلة الثانية تكمن في تخلّي القيادة السنية عن دعمهم حتى في الموضوع البيئي «على الرغم من الأضرار البيئية الكبيرة الناجمة عن معمل سبلين، لم تنجح كلّ مطالباتنا في إقفال هذا المعمل». وهنا يتذكّر أحد أبناء برجا ما قاله الرئيس الراحل رفيق الحريري يوماً خلال إفطار رمضاني، رداً على مطلب ضمّ الإقليم إلى صيدا انتخابياً: «هل تريدوننا أن نشعل حرباً؟».
لا يريد أبناء الإقليم حرباً مع جيرانهم. وهم لا يصعّدون لدى انتقادهم مواقف جنبلاط الأخيرة «لا أحد يعرف كيف ستسير السياسة غداً. غالباً سيتفقون وسيبقى جنبلاط يتعامل معنا على قاعدة «ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم»».
أنا حزبيّ
يرفض النائب علاء الدين ترّو التعليق على الانتقادات الموجّهة إليه. يكرّر عبارته «لن أعلّق» أكثر من مرة، قبل أن يعود فيقول «بعد بكير... بكرا منحكي». الاشتراكي منذ أكثر من ثلاثين عاماً يضع موقفه في خانة الالتزام الحزبي: «نحن حزب سياسي ونتصرّف وفق ما نراه مصلحة وطنية. وإن كنت أفتخر طبعاً بالانتماء إلى الطائفة السنية، إلا أني لم أشكك في الفرائض الدينية، بل عبّرت عن رأيي السياسي».
ترّو يبدو واثقاً من أن الأجواء التي تشاع «ليست أجواء برجا، هنا كلّهم متفهمون». ويوضح أنه ليس المسؤول عن لافتات النادي الثقافي الاجتماعي «لأني أتصرّف فيه بصفتي مواطناً لا نائباً».