النبطية ـ مصطفى الحمود
من الممتع في خضم محطات هذه الحياة الشائكة وهمومها وآفاتها، البحث عما هو نادر، فكيف اذا كنت ماراً في بلدة الكفور الجنوبية، وتعثرت عيناك بجمل عملاق يجوب براريها برفقة قطيع من الماعز والأبقار. تفتح عينيك بعد إغماضهما للتأكد، الأمر يستدعيك للتوقف برهة، إذ من النادر إن تشاهد جملاً في الحقول، والعثور على واحد يثير في داخل المرء فضولاً حول سبب وجوده هنا.
في وادي الكفور حيث البراري والحقول، ترى جملاً قادماً من البعيد يحرس قطيع الماشية. إلى جانبه ترى صاحبه العم «أبو بسام» الذي لا ينفك يحافظ على أناقته الفريدة والنادرة، تعلو ثغره ابتسامة بسيطة، يتوكأ على عصاه ويقول بافتخار: «انا املك الجمل الوحيد في المنطقة، فهو رفيق دربي منذ ما يقارب الستة عشر عاما، استخدمه في التنقل والرعي، وفي علاج امراض جمة».
يسعى «أبو بسام» صاحب الجمل الفريد في المنطقة، إلى إعادة الوزن إلى قيم الماضي، وان كان عبر ذكريات يسردها لهذا الطفل او لذلك الزائر عن محاسن وقدرات الجمل «التي يتوجب علينا ان نستلهم منها ونفيدها». بكلمة يختصر «أبو بسام» الطريق على كل من يريد التساؤل عنه: «فيه فوائد للكبير والصغير ولجميع الأمراض، هو الرفيق الدائم في رحلتي. أغوص البراري، اصول واجول فيها برفقته، اعتني به، لقد نشأت علاقة مودة بيننا، يفهم عليّ ما اقول».
تدهشك طريقة تعاطي أبي بسام مع الجمل، يعتبره جزءاً من حياته اليومية، فهو يستخدمه كعربة نقل لأعلاف الأبقار وللاعشاب، وله شهرة في المنطقة، اذ تبلغ قيمة النقلة بـ10 آلاف ليرة، و«الجمل بشيل».
ذاع صيت جمل أبي بسام في ارجاء النبطية ومحيطها، ويقول: «غداً سيكون محط أنظار طلاب المدارس الذين يقصدونني في الحقول للتعرف على فوائد الجمل واهميته وكيفية الاستفادة منه، اضافة الى إجراء أبحاث علمية عن سلوكه وطريقة عيشه».
ويعد الجمل «سفينة الصحراء»، من اكثر الحيوانات قدرة على تحمل مشقات الحقول، عدا عن انه يُعَلِّم الانسان الصبر والقدرة على تحمل الصعاب ومجابهتها. ويرى أبو بسام برفيق دربه كنزاً كبيراً لا يمكنه الاستغناء عنه، ويعمل جاهدا للمحافظة عليه، «لقد قمت بجولة على أكثر من منطقة للسؤال عما اذا كان هناك جمل آخر، الا انني تأكدت انه وحيد في المحيط، له اقران في بعلبك ولكنهم قلة»، ويعزو أبو بسام سبب احتفاظه بجمله إلى رغبته في المحافظة على هذا الجنس الذي يتجه نحو الانقراض في منطقتنا، ولا يسعى احد لحمايته ورعايته.
لا يتوانى العم أبو بسام عن تقديم التفاصيل عن حياة جمله الذي يجهد في تأمين العناية الكاملة له، بل تراه يسر حين يرى زائراً مقبلاً نحوه للسؤال عن جمله الذي يرغب في هذه الايام في التزاوج، ولكن العم ابو بسام يقول: «لو كنت املك مبلغ الفي دولار، لكنت اشتريت ناقة له، ولكن من اين آتي بها، فالاموال غير متوفرة لذلك»، يقولها وهو يضحك.
الحديث معه يطول، فهو يحدثك بطريقة الفلاح الجنوبي الاصيل، وبكلماته العامية النادرة، ولكنه يفتخر بامتلاكه لهجته الخاصة حين تسأله عن فوائد الجمل، يضحك ثم يقول: «لو عرف المرء فوائد الجمل لتصلب في مكانه وامتنع عن اللجوء الى الطبيب في بعض الحالات، فيه علاج للمرأة العاقر وللربو والصفيرة، نافع لورم الكبد، للبواسير، للصرع وغيرها من الامراض والآلام، فكل عضو من اعضائه فيه فائدة، من الوبر الى العظم فالبول والبعر» (على ذمة أبي بسام).
ومع كل سرّ تغوص في عالم آخر، اذ لا تتوقف أهميته عند هذا الحد عند العم أبي بسام، بل يستخدمه في التنقل وفي نقل الاعشاب والحبوب من منطقة الى اخرى، بأجر يبلغ 10 آلاف ليرة لبنانية، ويحظى بإقبال جماهيري واسع، وربما بنظر العم أبي بسام، يتم التحول إليه او الى الحيوانات الاخرى في التنقل، نظرا لغلاء أجرة التنقل في العربات الحديثة، فضلاً عن ضررها البيئي».
من قال ان الجمل لا ينفع في زمن الطائرات النفاثة، والانترنت، والسيارات الحديثة الطراز، نظرة واحدة على السيارات المتوقفة على الطريق الساحلية بسبب ارتفاع حرارة محركها أو لأعطال اخرى تكفي جواباً. «من ترك قديمو، جديدو ما بينفعو»، يختم ابو بسام لـ«البناء» حديثه الشيق عن الجمل، رفيق دربه، وصديقه الصدوق.