صور | «نفسية الناس تغيرت بمجرد أن تجدد الأمل بكشف مصيره، فكيف إذا عاد سالماً؟». سؤال لم يطرحه باسل حداد، ابن حارة المسيحيين في صور، فحسب، بل باتت أصداؤه تتردّد في فضاء المدينة التي مثّلت مسقط رأس الإمام المغيّب موسى الصدر، ومقرّ مسيرته التغييرية التي أطلقها منذ الخمسينيات، إذ تجد صور نفسها معنية تماماً بمتابعة أحداث ليبيا «لشعورها بأنها تتشفّى بالطاغية معمر القذافي، الذي خطف أمامها وقد حان الوقت لتستعيد حقّها منه» بحسب الكثيرين.
«المهم إنو يبيّن، حياً أو ميتاً»، تقول أم حسين قرعوني التي عايشت مسيرة الصدر في صور، في ردها على المعلومات المتضاربة عن مقتله أو استمرار احتجازه في أحد السجون. موقف حدا بجارتها إلى أن تحتفظ برأيها القائل إن عودته أمر مستحيل. كأن كل من يحسبها بالعقل «لناحية احتساب مدة غيابه وإضافتها الى عمره عندما غيّب، فضلاً عن اعتقاده بأنه ليس من مصلحة القذافي تركه حياً»، احتمالات منطقية باتت تمثّل «فألاً» سيئا لمحبيه. ترى أم حسين أن انكشاف حقيقة مصيره سيغير أشياء كثيرة في رأيها، فإذا «تأكدنا أنه قد قتل، سيقطع الطريق أمام الكثيرين ممن يستثمرون قضية تغييبه منذ ثلاثة وثلاثين عاماً. أما إذا عاد حياً، فإن الدنيا ستتغير كما تغيرت بنا الأحوال إثر مجيئه الى صور من إيران قبل حوالى خمسين عاماً» تقول.
يهتم الصوريون بسقوط القذافي لأنه «يمثّل الجدار الذي يخفي خلفه الإمام الصدر» يقول محمد، الذي يعرفه من خلال صوره المعلقة على جدران منزل عائلته ومنازل معظم أهالي الحارة، كما يعرفه من خلال الروايات عنه التي «تصل أحياناً الى حد الملائكية والقداسة» يقول. من هنا، يحتاج الشاب إلى أن يتلمّس حقيقة الإمام بعينيه «فإذا كان مثالياً كما تؤكد أنشطته وخطبه، فنحن بأشد الحاجة إليه الآن، ليس في صور فحسب، بل في لبنان أيضاً».
الغبطة تبدو على محيّا باسل بكل وضوح. يشعر الرجل الذي رأى الصدر للمرة الأخيرة في كنيسة الروم الأرثوذكس في الحارة، بأنه «سيستعيد أباه الذي فقده»، إذ يصف غيابه باليتم الذي أصاب المسيحيين، وخصوصاً في الجنوب، في إشارة إلى الرعاية الخاصة التي كان يوليهم إيّاها. باسل علّم أولاده ما كان قد ورثه عن آبائه بأن السبب الحقيقي لتغييب الصدر هو «تسليمه منطقة النبعة في بيروت للمسيحيّين خلال الحرب الأهلية بدلاً من المقاتلين الفلسطينيين بعدما تهجر منها سكانها الشيعة. فما كان من القذافي داعم الفلسطينيين، إلا أن انتقم منه».
ليس مسيحيّو الحارة وحدهم من سيستعيدون ظهرهم القوي وحمايتهم إذا ما عاد الصدر حياً، بل أنصاره من الطوائف الأخرى، الذين استعادوا بعضاً من مشاريعه التي وضعها لتطوير المدينة، منها أنه في عام 1966 أجرى دراسة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في صور وظهر له تفشي البطالة والعزلة الطائفية وانعدام الوعي الديني والأميّة لدى النساء خصوصاً. وأوصى اجتماعياً بإنشاء جمعية لرعاية الطفل وحديقة عامة وملعب رياضي ومكتبة عامة ونواد ونقابات وهيئات نسائية ورقابية على السلوك الأخلاقي والآداب العامة وتعزيز روح التطوع. أما اقتصادياً، فقد اقترح استحداث برك للملح على بعض الشواطئ، ومصنع لتعليب وتوضيب الفواكه وعصرها، وآخر لصناعة الزجاج من الرمول وتعزيز الحرف التراثية وتحسين قطاع صيد الأسماك. وكان في عام 1961 قد طرح فكرة زراعة الشاي بالاستعانة بخبراء إيرانيين كبديل أكثر ربحاً من زراعة الدخان. أما في آب من عام 1972، فقد أطلق الصدر معمل السجاد العجمي في مهنية جبل عامل.
من جهته، يستذكر باسل التخطيط الاستراتيجي الذي وضعه لصور ويشمل تحويلها الى مدينة دائرية وشبه جزيرة، بحيث تُستحدث جسور تربط جهاتها البحرية بمدخلها الشمالي، فضلاً عن أنفاق عدة تربط في ما بينها. الهدف من المخطط، هو تعزيز هوية صور السياحية، بحيث ترصف شوارعها بالبازلت ويمنع فيها مرور السيارات.
محمد ترجمان، أحد المصورين الذين رافقوا الصدر عن كثب، يتحدث عن أمور أخرى. هو يقرّ بأننا «نعيش في زمن المعجزات، ومنها احتمال عودة الصدر حياً بعد هذه السنوات الطويلة». في استديو التصوير الخاص به في شارع ريفولي لا يزال محمد يحتفظ بمجموعة خاصة للصدر، مرة وهو يخطب في احتفال تأبين الرئيس جمال عبد الناصر في نادي الإمام الصادق، ومرة وهو يجلس تعباً في استراحة قصيرة في حديقة أحد المنازل، وأخرى وهو يتناول البوظة من محل انتيبا لصاحبه المسيحي. أما الفيلم المصور الذي يتوقف عنده طويلاً، فهو احتفال استقباله في أوائل الستينيات بعد عودته الثانية من إيران. وهنا يستدرك قائلاً، وهو مصرّ على لفت انتباه المستمعين، إنّ الصدر غادر صور «زعلان» بعدما اختلف مع بعض رجال الدين بشأن توزيع حصص الخُمس والزكاة على الفقراء. فقد اعتاد البعض تحويل المبالغ الى جيوبهم الخاصة، فاعترض الإمام مطالباً بتخصيصها للمحرومين فقط، وعندما لم يرض هؤلاء فضّل العودة الى إيران. وبعد تعهدهم التزام مبادئه، عاد الإمام، حيث استقبله في ساحة البوابة التي سمّيت لاحقاً باسمه، صائب سلام ومعروف سعد وكمال جنبلاط وحشود كبيرة.
لا يظن ترجمان أن الجميع سيفرح بعودة الصدر «ولا سيما أولئك المستفيدين من غيابه، الذين احتكروا مقدّرات الطائفة الشيعية ومؤسساتها التي بناها لخدمة المحرومين». وفي هذا الصدد، يشير الى أن مدة حضور الصدر في ذاكرة الكثيرين لا تتعدى الخمسة أيام، «تبدأ قبل يومين من حلول ذكرى تغييبه في الحادي والثلاثين من شهر آب، وتستمر حتى اليومين التاليين».