أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

مفقودون إلا من الذاكرة

السبت 16 تموز , 2011 03:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,686 زائر

مفقودون إلا من الذاكرة

من يُرد لقاء أبو جمال قشمر، فعليه أن يبذل جهداً مضاعفاً للبحث عنه. الرجل التسعيني، لم ينزل بندقيته بعد عن كتفه. تراه يتنقل بين بلدات الجنوب، يزرع أرضه في الحلوسية تارةً، يحرس أودية بلدته طوراً، ويتفقد رفاقه من صور حتى عين إبل. والأهم أنه لم ينقطع يوماً عن تفقد القضية الفلسطينية، بوصلته الأولى، في مخيمات صور. خط سير أبو جمال، الذي يشبه سير المقاتل، يجعل السؤال خجولاً جداً عن أحواله في الذكرى الـ29 لافتتاح معتقل أنصار، والـ28 لاختطاف ابنه خالد، وابن عمه علي وفقدانهما، والـ27 لاعتقاله هو شخصياً في أنصار.

من أين تبدأ الحكاية مع أبو جمال، الذي يخبّئ بين تجاعيد وجهه تفاصيل لا تُحصى عن عمليات المقاومة وروّادها وأبطالها وخائنيها «الذين لا يزالون يعيشون بيننا» كما يؤكد. يعود في حديثه إلى ما قبل نكبة عام 1948وصولاً إلى ما بعد عملية التبادل الأخيرة التي يأسف «لأنها مثّلت المنعطف الأخير لدى كثيرين، وألقت بالحركة الأسيرة على الرف». مع ذلك، بالكاد يحظى فلذة كبده خالد بحصة من ذكرياته. المهم بالنسبة اليه، أن الفتى (مواليد عام 1968) أدّى واجبه تجاه المقاومة، وانخرط باكراً في صفوفها المسلحة. أما وأنه اعتقل مع ابن عمه واقتيدا الى مقرّ العدو حينها في مدرسة الشجرة في البرج الشمالي ليل الأربعاء 24 تشرين الثاني 1983، قبل أن تفجّر بعملية للمقاومة صباح اليوم التالي، ويُفقَدا تحت أنقاضها، فذلك قضاؤهما وقدرهما.
هذا التسليم اكتسبه مع الوقت، لأنه بعد نصف ساعة من التفجير، كان قد انكبّ على الأنقاض وبدأ يزيلها بيديه بحثاً عن خالد وعلي. كان يغرف الدمار بكفيه، لعلّه يمسك بقطعة من أشلائهما. قوة الانفجار لم تُبق الجثث على حالها، ما صعّب التعرف عليهما. انتهت أعمال البحث بدفن عدد من الشهداء المجهولة هوياتهم في مقبرة جماعية في صور، فيما نقل أربعة منهم إلى فلسطين المحتلة للتأكد من هوياتهم. وبعد أسبوعين، أعيدوا ليسلّموا إلى أهاليهم الذين لم يكن أبو جمال واحداً منهم. جال على مراكز الإسرائيليين والعملاء، بحثاً عنهما، واضعاً احتمال نقل جثتيهما إلى داخل الأرض المحتلة أو الى مقبرة جماعية. وبعد أشهر، جاءه الجواب: لا أثر لخالد وعلي. سلك أبو جمال طريق الدولة والجمعيات والأحزاب. أودع ملفهما لدى كل اللجان الرسمية والخاصة التي تولت مهمة متابعة قضية الأسرى والمفقودين. مرّت السنوات من دون جواب أو غيره.
أسرة علي كانت أكثر تأثراً. عند اختطافه، كان المزارع، زوجاً وأباً لأحد عشر طفلاً وطفلة. اضطر ابنه البكر حسين إلى ترك المدرسة والعمل، ومثله فعل لاحقاً بعض أشقائه. أما زوجته زينب بري، فسعت وسعها لتربية أولادها والتعويض عن غياب زوجها. ناضلت وصبرت إلى أن خارت قواها وغلبها المرض، الذي أصابها منذ فقدان زوجها، إلى أن توفيت قبل 13 عاماً.
مرّ التبادل الأخير كسراب أمام العائلة التي هدأت بانتظار «خضّة» جديدة. وحتى ذلك الحين، يملك علي وخالد مكانهما في منزل أسرتيهما. الحائط يفتح ذراعيه ليضم صورهما التي بهتت ألوانها بمرور الوقت.
التبادل الأخير، أحيا قصة علي مراد (16 عاماً). الفتى الجنوبي الوحيد الذي شارك في عملية الشهيدة دلال المغربي، إلى جانب الصيداوي الشهيد محمد الشرعان، كان قد سقط من ذاكرة الكثيرين بعد مرور 33 عاماً، إلا أن تخصيص مساحة مهمة لدلال ورفاقها لاستعادة جثامينهم في التبادل الأخير، أضاء على الشهيد المفقود.
أسرته لم تنسَه، ولم تكن بحاجة إلى صورته التي رفعت إثر التبادل، عند مفترق مسقط رأسه في الحنية، لتذكّرهم به، إلا أن معظم الناس كانوا بحاجة إلى ذلك، لأنّ الزمن وتوالي الأحداث المشابهة غطّيا على تجربته.
إلا أن التبادل كان ضوءاً خاطفاً على العائلة. شمّر حسين الوالد والأشقاء سواعدهم لاستقبال الجثامين في الناقورة، ومواكبة مواكبهم التي ستمر بمحاذاة الحنية. هناك، تأجل الجزم بعودة جثمان علي إلى اليوم التالي في بيروت. لثلاثة أيام متتالية، التحق الوالد بالقسم الذي خصّص لأهالي المفقودين والشهداء للتحقق من رفات الجثامين العائدة لعلها تكون لأبنائهم. لم تنفع المحاولة الأولى، فأعطى الوالد فحص الحمض النووي لمطابقته مع الجثامين التي لم تعرف هوياتها. الأمل لم يدم طويلاً، إذ انقطع بعد شهرين فقط، عند الإعلان أن إسرائيل لم تُعد جثامين الشهيدة دلال ورفاقها.
وعودة الى الذاكرة للاحتماء بها في ظل علي الذي لا يسكن فيها. في بيت الأسرة، خصص برواز لصورته وعدد من المنشورات عن عملية هرتسليليا. وحده الوالد يحتفظ بذكريات كثيرة معه دامت حتى قبل ثلاثة أيام من التحاقه بمقر حركة فتح في صور، استعداداً للعملية. لذا، فإن الدموع تتمكن من عينيه فحسب. يختنق لدى استقبالنا معاتباً: «شو جايين تقلبوا المواجع؟». يستدرك الأمر ابنه محمد، الذي كان في التاسعة من عمره عند استشهاد علي. أشقاؤه الذين ولدوا من بعده، يلجأون الى المنشورات للتعرف على شقيقهم المقاوم، إلا أنها لا تعطيه حقه بالتفصيل. إلى أن جاء حسين فياض، أحد المقاومَين اللذين نجوَا من العملية. قبيل عدوان تموز، فوجئ أفراد العائلة به يزورهم بهدف التعرف الى أسرة علي «المقاوم الشرس الذي أخلص للقضية الفلسطينية من دون الطمع في منصب أو مال». من حسين وبعد 28 عاماً، عرفت العائلة أنّ ابنها كان مسؤولاً عن حراسة الرهائن الإسرائيليين الذين هدفت المجموعة إلى أسرهم. وأن علي صمد الى النهاية قبل أن يداهمه الرصاص ويصيبه في وجهه، فيسقط شهيداً أمام عيني حسين، الذي لم يعرف لاحقاً مصيره، لأن كلاً منهما اقتيد الى جهة.
وإن كانت العائلة لم تحظ بحصة لها من إسرائيل في التبادل الأخير، فإنها نالت نصيباً وافراً منها خلال عدوان تموز، إذ قصف منزلها الذي تحوّل إلى أنقاض.
أما عائلة الأسير المفقود محمد فران، فإنها تذوب يوماً بعد يوم منذ فقدان زورقه في بحر صور في عام 2005. ظنت العائلة والكثيرون أن حظهم في التبادل، قد يكون أفضل من عائلات المفقودين الذين مرت عقود على اختفائهم، إلا أنهم تحوّلوا بعد أقل من ست سنوات، الى مصابيح للذاكرة كمن سبقهم. والده عادل والأشقاء لا يتوانون عن إحياء ذكرى اختفاء الشقيق الأكبر والسؤال عنه لدى «حزب الله»، الذي تبنى قضيته ونادى بها، إلا أن كُليتَي والدته سميحة كاعين لم تتحملا أن يمرّ التبادل من مدينة صور بلا حصة لها، لا حية ولا ميتة. توقفت عن العمل احتجاجاً، واعتصمت في أقسام غسيل الكلى بين مستشفيات صيدا وصور، حتى جلاء الحقيقة أو الموت.


المعاناة المستمرة

في الدراسة التي أعدّها «مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» عن الأسرى المحررين وأهالي المفقودين في ختام مشروع دعمهم الصحي والنفسي والاجتماعي المموّل من الاتحاد الأوروبي، يظهر أن آثار الاختفاء القسري تستمر رغم طول الزمن. صحياً، لحظ الفريق الطبي في المركز أن الأمراض المزمنة تنتشر بين أمهات المفقودين وآبائهم على نحو خاص، ولا سيما الضغط والسكري وأمراض القلب والسرطان. والسبب يعود إلى حالة الاكتئاب والصدمة التي تصيبهم إثر اختفاء ابنهم. واللافت أن الأمراض تظهر في أوقات مختلفة، إمّا مباشرة أو بعد سنوات، بحسب القدرة الجسدية والعصبية لكل منهم على تحمل الصدمة. وتقدم الدراسة نموذجاً عن والدة شقيقين تدهورت صحتها مباشرة بعد اختطاف ابنيها، ونقلهما إلى مكان مجهول لم تعرفه إلا بعد مرور شهرين كاملين، إلا أن الإفراج عنهما بعد أشهر قليلة لم يطرد المرض الذي كان قد استوطن في جسدها إلى أن توفيت بعد عامين فقط. ورصدت عادة التدخين وشرب القهوة الملازمة لكثير من الأمهات والآباء وسيلة لتفريغ الضغط المعنوي الداخلي.

Script executed in 0.23096609115601