قد لا تتشابه تلك العائلات في كثير من النواحي، فبعضها ورث الثروة وانخرط في مجالات الاقتصاد والاستثمار، وبعضها الآخر ورث الهيبة والوجاهة فعمل في ميادين السياسة والديبلوماسية، إلا أن جميعها امتلكت السلطة. سلطة، على اختلاف ممارساتها، تنعكس في تولي رجالات هذه العائلات إدارة مفاصل المجتمع المغربي، بدءاً من السياسة والفكر وصولاً إلى الرياضة وأحوال المجتمع.
فمن تكون تلك العائلات الكبيرة ومن هم رجالها؟ ما حجم تأثيرهم على مفاصل البلاد السياسية والاقتصادية؟ وهل يحظون فعلاً باستقلالية التصرف والحكم كما يدّعون، أم أنهم مجرّد أدوات تُحرّك لأغراض داخلية وخارجية؟
ويبقى السؤال الأهم، على ضوء التعديلات الدستورية التي أقرّها الملك المغربي محمد السادس مؤخراً، يدور حول إمكانية ترجمة التغيير على أرض الواقع، لا سيما أن هذه الشبكة العنكبوتية من العائلات، التي رسّخت سلطتها منذ عهد الملك حسن الثاني، يمكن ألا تقبل بهذه التعديلات إذا مسّت مصالحها؟
الذي يحكم المغرب اليوم هو الملك طبعاً، إنما من يتولى أعلى المناصب، الرسمية والخاصة، في المملكة هم أصحاب الامتيازات الذين ينتمون إلى «العائلات العريقة» في المغرب. وقصة هذه «البرجوازية الأرستقراطية»، التي تعود جذورها إلى أزمنة الفتوحات العربية الأولى وتأسيس مدينة فاس، باتت أشبه بقصة المملكة نفسها.
بدأت القصة من فاس التي أسسها عام 789 السلطان إدريس الأول، حتى أصبحت بعد عشرين عاماً، في عهد السلطان إدريس الثاني، مقر السلالة الحاكمة وعاصمة المملكة العلمية. في فاس، بدأ السلطان الثاني، منذ عام 825، استقبال حوالى 2000 من العائلات العربية القادمة من قيروان التونسية، ومن ثم بدأ عدد كبير من العائلات، التي حملت إرث الحضارة الأندلسية الثرية، بالتدفق من الأندلس قادمة من قرطبة وتوليدو وإشبيلية.
في كتابه «النُّخب المغربية»، يحدّد الباحث المغربي علي بنحدو ثلاثة أصناف من العائلات المغربية هي «الشرفاء والعلماء والتجار»، بما يجعل الأسر المنتسبة لهذه العائلات، تحصل على مجموعة من الامتيازات عبر أجيالها.
يعتبر «الشرفاء» أنفسهم من نسل نبوي، وبالتالي يجعلهم ذلك الامتياز الرمزي «أصحاب البركة»، وعلى رأس هذه العائلات، تأتي العائلة المالكة.
أما العلماء، فقد ظهروا في بداية القرن السابع عشر، ويوصفون بأنهم «حراس التقاليد»، وتعد عائلة الفاسي من بين عائلات العلماء الأوسع نفوذا في المملكةً، والتي ينتمي إليها رئيس الوزراء المغربي عباس الفاسي.
وهناك عائلات التجار، وهي الأكثر عدداً. وقد استفادت، بدءاً من القرن السادس عشر، من نمو التجارة العالمية كي ترسّخ نفوذها. وهي تقيم علاقات استيراد وتصدير مع انكلترا وبعض الدول الأوروبية، كما اتجه بعضها إلى أفريقيا وحتى إلى الصين والهند.
ويستمد التجار والعلماء مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية، من تحالف تاريخي مع سلاطين المغرب. فالحسن الأول مثلا، يُلاحظ بنحدو في دراسته، التجأ إلى هاتين العائلتين، في نهاية القرن التاسع عشر، من أجل إقامة نوع من الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
زيجات المصلحة
بدأت الفروقات بين شرفاء المغرب وتجاره وعلمائه بالتلاشي منذ سنوات. فقد حرصت الفئات المذكورة على عقد الزيجات العائلية لتوسيع دائرة مصالحها، حيث رصد بنحدو أنه من بين ثلاثمئة من كبار شخصيات الدولة، الذين ينتسبون لخمسين عائلة تُعتبر الأغنى في المغرب، هناك 17 في المئة منهم متزوجون من بنات العمومة، و69 في المئة منهم تزوجوا من بنات أقارب. وهو ما دقق فيه الباحث الأميركي جون واتربوري الذي اكتشف، في كتابه «أمير المؤمنين.. الملكية والنخبة السياسية المغربية»، أن «الزيجات المختلطة، لعائلات الخطيب وبن سليمان وبوستة وحصار وبنهيمة... كانت أبعادها مصلحية، من أجل ضبط مصالح سياسية واقتصادية متشعبة».
النفوذ الاقتصادي
في القرن التاسع عشر، ترك عدد من العائلات الكبرى فاس ليستقروا في الدار البيضاء التي أصبحت العاصمة الاقتصادية للمغرب. وقد استحوذ العديد من هؤلاء على نفوذ وسلطة واسعين، فباتوا يعرفون بـ«فاسيي الدار البيضاء». حسن بن جلّون كان أحد المستفيدين الكبار من انفتاح الدار البيضاء على التجار الأوروبيين في عزّ الفورة الاقتصادية لقارتهم. وقد استثمر بن جلون عند قدومه إلى المدينة في مجال العقارات، أما ورثته اليوم فيصل عددهم إلى 150، وأشهرهم على الإطلاق عثمان بن جلون.
يرأس عثمان المجموعة المالية الضخمة المعروفة بـ «فايننس كوم»، التي تراقب نحو 25 في المئة من سوق التأمين في المغرب، كما يتولى إدارة «البنك المغربي للتجارة الخارجية»، الذي يمثل نحو 16 في المئة من النشاط المصرفي في المغرب. عام 1990، احتلت ثروة عثمان المرتبة الثانية في البلاد بعد ثروة الملك، علماً أنه متزوج من ليلى مزيان ابنة المارشال امزيان، المتحدر كذلك من سلالة عريقة.
هناك عائلات أخرى، شكّلت الحجر الأساس في سياسة التحديث الاقتصادي الذي كان ينشده السلطان مولاي الحسن الأول الذي عمل على توسيع نفوذ العائلات الفاسية مثل بن شقرون وبنونة وبن سليمان.. وعليه وجد الفاسيون أنفسهم مدعوون إلى الاستثمار في الدولة والسبب بسيط: كانت الأخيرة بحاجة إلى مجموعة من التكنوقراط ذوي الكفاءات ممن يرتادون أفضل المدارس، وكان هؤلاء، بدورهم، فهموا طبيعة الامتيازات التي سيحصلون عليها فحرصوا على احتكار أفضل المدارس، علماً انه كان هناك في المغرب مدرستان مسلمتان فقط، واحدة في فاس والأخرى في الدار البيضاء. وهكذا، تمكّن هؤلاء «المتعلمون» من صناعة الحياة السياسية، وتأسيس الأحزاب التي تدافع عن القومية المرتكزة على الإسلام والعروبة، وهو شعار قرّبهم من السلطة.
من جانب آخر، احتاجت أسماء أخرى، انبثقت من خارج العائلات «المهيمنة»، لعشرات السنوات حتى «تغزو» مجال الاقتصاد، وذلك بعد أن سمح الملك حسن الثاني لرجال أعمال أمثال ميلود الشعبي وعزيز أخنوش بالتوسع.
أما الملك محمد السادس فقد اعتمد سياسة مغايرة عمن سبقه، حيث أحاط نفسه برفاق قدامى من أيام المدرسة الملكية. ومنذ أيام حكمه الأولى، ارتكز الملك في حكمه على التكنوقراط الذين قربهم منه أكثر من اعتماده على رجال السياسة. وبهذا تنوع اللاعبون الكبار في المملكة، فيما ظلّت العائلات الكبرى هي من تمتلك امتيازات الاقتصاد والسياسة ومن ترسل أولادها إلى أفضل الجامعات الأوروبية والأميركية.
وفي الخلاصة، يحدد بنحدو حوالى اثنتي عشرة عائلة مغربية، تُسيطر على زهاء 80 في المئة من النشاط الاقتصادي المغربي، وعلى رأسها:
العائلة الملكية: تسيطر على مجموعة «أونا» التي تضم مجموعة من الشركات هي مركز الحليب، بيمو، كوسومار، ماناجيم، أكسا للتأمين، مرجان، سموبريام، تراكتافيك، براسري المغرب وغيرها .
عائلة بن جلون: تملك مجموعة «فايننس كوم»، والبنك المغربي للتجارة الخارجية.
عائلة الشعبي: تملك «مجموعة يينا هولدينغ» وفيها أسواق السلام، سوبر سيرام، بلاستومار، سنيب، وشركات في مجال الفنادق والنسيج، والصناعة الغذائية، والبناء، والقروض المرتبطة بالاستهلاك.
عائلة أخنوش: تملك أفريقيا للغاز، أكوا هولدينغ، مغرب أوكسيجين، ومساهمات في عدد من الجرائد منها «لانوفيل تريبيون»، والاتصالات «مديتيل».
عائلة الكتاني: حصة «وفابنك» في التجمع البنكي الضخم التجاري «وفابنك»، وأسهم في مجلة «الايكونوميست» وغيرها.
عائلة بن صالح: لديها أطلس للتأمين، كونتوار ميتاليرجيك، أوتيس ماروك وغيرها.
عائلة العلمي: لديها ألومنيوم المغرب، ستروكتال، أفريقيا للتصنيع... فضلاً عن عائلات أخرى كأمهال والجامعي والسقاط وغيرها.
عائلة الفاسي.. نموذج «احتكار» عائلي
عندما حاولت مجلة «الإكسبرس» الفرنسية رسم صورة مفصلّة لشبكة عائلة الفاسي ومناصبها، كان أول ما اعترفت به أن الأمر على درجة بالغة من التعقيد. كيف لا، والكلام للمجلة الفرنسية، وعباس الفاسي هو رئيس الوزراء ولينا الفاسي الفهري، التي تم تعيينها مؤخراً مسؤولة الموارد البشرية في وزارة الشباب والرياضة، ابنته. وبينهما هناك زوج ابنة عباس الفاسي، يونس المشرافي، وهو المدير العام لشركة «المغربية للألعاب»، وابن الوزير الأول عبد المجيد الفاسي، رئيس «قناة الإخبارية»، وزوج ابنته الثانية، نزار بركة، هو وزير للشؤون العامة والاقتصادية للحكومة، وزينب الفاسي الفهري، رئيسة مديرية الشؤون العامة في وزارة التجارة الخارجية، والتي هي بدورها بنت أخت عباس الفاسي وأخت الطيب الفاسي الفهري، وزير الخارجية، وعلي الفاسي الفهري، رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم والمتحكم في مياه المغاربة المسمّاة «الصالحة للشرب» والمتحكم أيضاً في التيار الكهربائي، وإبراهيم الفاسي الفهري، نجل الطيب، يتولى إدارة معهد الأبحاث «أماديوس»، والتي تثار الشبهات حوله لا سيما بعد دعوته العديد من الاسرائيليين للمشاركة في ندوات ينظمها وعلى رأسهم تسيبي ليفني.
هذا النموذج، لفرط «غرابته» البديهية، بات مألوفاً ليس في المغرب وحده إنما على امتداد البلدان العربية، من مستها رياح التغيير ومن تنتظر منها. نموذج يؤكد، مرة تلو الأخرى، أن النظام، الذي يريد الشعب إسقاطه، ليس رأساً فقط حتى في الانظمة الأحادية، إنما هو أخطبوط بأرجل لا متناهية.