أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

جنبلاط يناور على حبل التقلّبات... في انتظار جلاء الصورة السورية

الخميس 05 كانون الثاني , 2012 04:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,271 زائر

جنبلاط يناور على حبل التقلّبات... في انتظار جلاء الصورة السورية

قد لا يستمتع وليد جنبلاط كثيراً بسرد شريط ذكرياته للعام 2011. النزلات فيها أكثر من الطلعات.

لا خوف على «ابن المعلم». يقف على أرض ثابتة، زعامة متجذّرة في الأرض، عصيّة على الرياح... بينما كلّ شيء من حوله يميد ويتحرّك. تحولات المنطقة أسرع من أن تلتقطها ذبذبات المختارة أو راداراتها برغم خبرتها التاريخية. لكن مهما تقلّبت الأحوال والوجوه، فثمة ثابتة تتحكم بموقف «البيك»: قانون الانتخابات النيابية: المركب إلى شاطئ الزعامة إذا ما أتت تفصيلاته على قياس «أبي تيمور».

إذا أردت أن تتلمّس «المزاج الجنبلاطي»، فاسأل دائما عن الدوائر الانتخابية... فهي التي قد تقود «سيّد المختارة» من خندق إلى آخر. بسلاسة «حربائية» تجعل الأبيض أسود، والبعيد قريباً، والحليف خصماً، ما دام دفتر شروط الزعامة يقتضي ذلك.

«الربيع العربي» بتجلياته المتنقلة من دومينو إلى آخر، وُضعت رزنامته على طاولة المختارة: أبعاده. تأثيراته اللبنانية والسورية. حلقات تمدده. انعكاساته... 

مع اشتعال نيران «بوعزيزي»، كان «الزعيم الجنبلاطي» أول المصفّقين لـ«ثورة الياسمين». إثر سقوط «أبو الهول» المصري أضيئت سماء المختارة برصاص «بيك» تناسى أن حزبه كان من الأحزاب القليلة التي كانت تنظّم علاقاتها بـ«الشبر والندر» مع مدير المخابرات المصرية السابق الوزير عمر سليمان، حيث كان أحد نوابه يقوم بزيارات شبه دورية إلى القاهرة للتنسيق مع رجل الأمن الأول في «بلاد النيل»، فيما «الدلال» الذي كانت تمارسه السفارة المصرية في لبنان بحق الزعيم الدرزي، واضح وضوح الشمس... لكن لا بدّ من تشريع الأبواب أمام «عاصفة الثوار» التي تلفح المنطقة.

حان وقت «الحجر» الليبي. «كشّ ملك». يرتفع منسوب الحماسة في المختارة: «تسونامي» التغيير في العالم العربي يبدو جدّياً. ما من خيمة فوق «الرؤوس الخالدة». ولا مانع من الانقلاب على تاريخ «الحركة الوطنية» وبعض «إرثها السيئ»، بإغفال واقعة تاريخية مفادها أن «التقدميين» كانوا في الصفوف الأولى للمقاتلين في المعارك بين ليبيا والتشاد خلال الثمانينيات، وكانوا يشيّعون في قراهم بصفتهم «مناضلين أمميين»... أما اليوم فهو زمن التهليل لثورة ليبيا، حتى أن جنبلاط كان من أوائل من وطئت أقدامهم «عاصمة الثورة»، في أيلول الماضي (كانت مبايعة القذافي كل سنة في ذكرى ثورة الفاتح في سبتمبر على رأس رزنامة الواجبات الجنبلاطية في الزمن الغابر)، في زيارة جمعت بين السياسة و«البيزنس». وهناك من يحاول ايجاد «قواسم ثورية» بين دروز لبنان وثوار ليبيا عبر القول ان لليبيا مغزى خاصا في «التراث الجنبلاطي»، لأن جدّ وليد جنبلاط لجهة والدته، الأمير شكيب أرسلان، قاتل فيها ضد «الطليان» إلى جانب «أنور باشا العثماني»، ثم كانت له مراسلات مع «عمر المختار»!

«الموجة» تحطّ رحالها في بلاد «الأمويين»، في أرض «الجيران». مرّة جديدة صحّت توقعات «البيك». «قصر تشرين» قد لا يسلم من ارتدادات «الزلزال العربي». في الشكل، كان يعتقد أن بشار الأسد قد يكون القائد العربي الوحيد الذي سينجو من الغرق في مستنقع الاجتجاجات الشعبية. سيتحصّن خلف الإصلاحات لينحني أمام رياح التظاهرات كي تمرّ بهدوء. ظنّ أن هناك في دمشق من يريد أن يتعلم من درس «المارونية السياسية» في لبنان. كان لا بد من شريك مسلم للمارونية. ولما لم تقدم على ذلك ، كانت الحروب وما أدت اليه من أكلاف عالية على الموارنة ولبنان. المطلوب من أهل النظام في دمشق أن يتنازلوا طوعاً، قبل أن يفرض التنازل عليهم «طائفاً» جديدا إقليميا أو دوليا، من باب تجنّب احتراب أهلي لن يرحم أحداً.

ارتسمت هذه المقاربة في ذهن «أبي تيمور» مع انطلاق أول «شعارات التغيير» في الريف السوري. عزّزها بما بلغه، عبر قنواته الدبلوماسية وبعض الأصدقاء و«الرفاق»، من قراءات غربية ومعطيات منثورة على طاولات القرار الدولي. حاول إيصال تلك الرؤية إلى أهل البيت السوري، للتحذير من مغبّة تفويت تسوية تعفيهم الأثمان الباهظة التي ستصبح حتمية مع مرور عقارب الساعة، لكنه لم يوفّر «نتعاته» عبر وسائل الإعلام، غير المستحبة من الجانب الآخر للحدود. 

وللمرة الأولى مذ عاود سلوك طريق الشام في 31 آذار من العام 2010، يسقط الزيت على «الجمر المدفون»: لقاء لن يتجدّد مع الرئيس السوري بشار الأسد في الأول من حزيران الماضي، يعجز عن بلوغ مرتبة أسلافه. أبلغ الضيف محدّثيه أنها فرصة تاريخية للتخلّص من وزن بعض «رجالات النظام» الزائد. بعض «المكروهين» من الجمهور، ومن الغرب أيضاً، لاستعادة ثقة الخارج كما الداخل. لكن التوتر الذي طاف على وجه الجلسة لم يترك للحوار مطرحاً، ولم تنفع معه محاولات وزير «اللينك» الجنبلاطي ـ السوري، غازي العريضي، في تنقية شوائبه، قبل أن يصبح سلوك طريق الشام صعبا حتى على «أبي عمر».

هنا، يُقال إن هواجس و«ليد بيك» من اشتعال الأرض السورية، تتلخّص بخوفه على أبناء طائفته السوريين. الامتداد الطبيعي لهؤلاء في سهل حوران هو العمق السني. لذا، تمنى تحييدهم عن الاقتتال الداخلي، وهو جدد دعوته في الأمس القريب الى بني معروف في سوريا بأن يتمردوا على الاوامر العسكرية و«ان يرفضوا المشاركة مع الفرق العسكرية التي تقوم بعمليات القمع ضد الشعب السوري بعدما عاد العشرات منهم في نعوش نتيجة قتالهم اهلهم في المناطق السورية الاخرى».

غير ان الحقيقة المُرة التي يدركها جنبلاط أن دعوته الحالية ودعواته السابقة باتت متأخرة بعدما نجح النظام السوري في ضمّ منظومة الأقليات الخائفة الى معركته ضد المجموعات المسلحة في كل أنحاء سوريا... وكان من الطبيعي أن تكبُر المسافة بين المختارة ودمشق.

أصلاً، لم ترتق العلاقة بين «البيك» و«سيادة الرئيس» إلى مرتبة التحالف الاستراتيجي. تعرّف جنبلاط الى مستمع جيد. الى قارئ للسياسة. الى شخص قادر على نبش الفكرة من رأسه قبل أن يتفوه بها. والدليل عندما أجاب الأسد جنبلاط عما يردده البعض عن شقيقة ماهر قبل أن يطيل جنبلاط التفكير في كيفية «طبخ» السؤال العالق في ثنايا حسابات اختيار كلماته ومفرداته. 

«حرب المنابر» لم تُمح من ذاكرة السوريين، ولا وليد جنبلاط غفر لهم «ذنوبهم». لكن «فنّ الممكن» كان قد جمع الطرفين من جديد. ولجنبلاط الفضل في الانتقال السلس للسلطة في لبنان من سعد الحريري الى نجيب ميقاتي.

في شهر «الانقلاب اللبناني» على سيّد السرايا الحكومية، كانت للزعيم الدرزي جولات وصولات في التواصل مع القيادة السورية. كانت البداية بلقاء مع الرئيس السوري الذي أبلغه يومها أن القيادة السورية متمسّكة بعودة سعد الحريري إلى الرئاسة الثالثة، لحسابات تتصل بالعلاقة مع المملكة العربية السعودية، ما أثلج صدر «سيد المختارة» الذي عاد وعمّم كلمة السر على نوابه.

في هذه الأثناء، كان «الخليلان» يعبران نقطة المصنع باتجاه مركز القرار السوري، يضعان في جيبه، خطاً أحمر حملاه من الضاحية الجنوبية: لا للحريرية السياسية ولا مجال لعودة «نجلها» إلى الرئاسة الثالثة. تكررت الزيارة لتأكيد المؤكد: «السيد» مصرّ على موقفه، والأسد لا يزال عند رأيه، لكنه ترك الكلمة الأخيرة لصاحب «العمامة السوداء»، على أن يتم إبلاغ جنبلاط بمضمون القرار أياً يكن. 

على هذا الأساس أقفل «الخليلان» عائدين إلى أرض الوطن، لتولد فكرة نجيب ميقاتي «الوسطية». يومها، حرص «الطبّاخون» على تدليل «البيك» وتعزيز موقعه الوزاري من خلال ثلاثية خدماتية وتمثيل سنيّ، بعدما حصر التمثيل المسيحي بـ«تكتل التغيير والإصلاح» ورئيس الجمهورية ونقولا نحاس لنجيب ميقاتي، علما بأن شهية رئيس «جبهة النضال الوطني» كانت مفتوحة أيضاً على الكوتا المسيحية.

وجد «زعيم المختارة» في رئيس الحكومة الجديد «ضالته»: مستعد للمناكفة والاعتراض على كل التفاصيل. «خامة» تصلح لـ«لوبي معارض» في كنف السلطة، على طاولتها الحكومية تحديداً. مع الانضمام «غير الرسمي» لرئيس الجمهورية ميشال سليمان الى هذه «الجبهة»، صار بامكان «الثلاثي الاعتراضي» التنسيق في ما بين اطرافه على الطاولة الميقاتية، كي لا «يُبلعون» من الأكثرية الحكومية، وهم على يقين بأن شريكهم الرابع وربما الأول في الترتيب السياسي، وهو نبيه بري، الأكثر مصلحة في تحالف من هذا النوع، انطلاقا من قناعته بأولوية العمل على الملف السني الشيعي بالتواطؤ مع وليد جنبلاط!

على قاعدة، «يوم معها ويوم عليها»، يمارس وليد جنبلاط سياسة المناكفة المحبّبة على قلبه، مع حكومة «كلنا للعمل»، وإن كان مقتنعاً بضرورة حماية الحكومة وتحييدها عن الصراعات الكبيرة الحاصلة من حولها. إلا أن ما يؤرق «أبا تيمور» يتسلل من خارج الحدود: نمو الأصوليات الإسلامية خطر داهم، قد لا نتلمس نيرانها اليوم، لكن تقلّبات المنطقة لا تطمئن البال. يراقب بحذر تمدّدها على الخارطة العربية وركوبها موجات الثورات كي تصل إلى رأس السلطة. ردّد الفرنسيون على مسمعه أكثر من مرة، أن سقوط الأسد صار حتمياً، ولا عودة عن هذا القرار. كذلك فعل الأميركيون، الذين كرّروا هذه اللازمة بكلام واضح وصريح. وعليه، إلى أين؟

حتى اللحظة، «جنّات» الثورات لم تعط إلا «فاكهة إسلامية»!

في المقلب الشرقي للكرة الأرضية، يقف الدب الروسي متأهباً للاحتجاجات في «بلاد الأموين» ومتوجساً من انزلاق الأرض تحت قدمي النظام البعثي. وشعر «أبو تيمور» بأن إدارة ديميتري ميدفيديف تبالغ بحماية النظام السوري. حاول خلال رحلته الأخيرة إلى بلاد الصقيع منتصف تموز الماضي، «دوزنة» الموقف الروسي عبر مفاتيحه الروسية العتيقة والحديثة، ليقنع الكرملين ببعض «العقلانية» وإعادة التموضع في مقاربته الملف السوري. لكن تبيّن له أن موسكو تنظر إلى دمشق بعين المصالح الجيو ـ استراتيجية غير القابلة للتفاوض، كآخر منفذ لها إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط. الروسي عينه على «المارد العثماني» الذي يحاول الخروج من «قمقمه»، وحساباته بعيدة الأمد تتصل بالخطر الاستراتيجي الذي قد يشكله التمدد التركي.... إذاً، لا مجال لليونة في تشدده ودعمه نظام الأسد.

ناشد وليد جنبلاط الايرانيين أكثر من مرة واستعان بقاموس ذاكرتهم الثقافية والشعبية وبأقوال الشاعر الايراني الكبير سعيد شيرازي لعل نظام آيات الله يتخذ موقفا مرنا من الأزمة السورية، لكن من دون طائل.

في الداخل اللبناني، بداية العام لا تشبه خواتيمه ولا بداية العام 2012. علاقة «البيك» بحلفائه السابقين، تتقلّب على نار الانقلاب الداخلي من جهة، والانقلاب الإقليمي من جهة أخرى. وما «اقترفته» يداه في شهر كانون الثاني الماضي، لربما يحاول تصحيحه... خلال العام الطالع، بعدما حفر بعض الكوات في جدار العلاقة، قد يسهل توسيعها إذا ما سمحت الظروف الإقليمية، بمشهدها الدمشقي، تحديداً. فمياه التواصل سرعان ما عادت إلى مجاريها، لا سيما أن قوى 14 آذار راهنت دوماً على عودة «الابن الضال» إلى «خندقها»، وهي لذلك جنّبته انتقاداتها، حتى لو لم يوفرها هو. 

التنسيق اليوم بين التقدميين ومن كانوا في صفوف الخصومة، على قدم وساق، في النقابات والهيئات الطالبية. لا يمكن إغفال شريان الربط الرئيس، أي المملكة العربية السعودية، المعبر الإلزامي للتفاهم بين «الاشتراكيين» و«الحريريين»، إلا أن الرياض تقفل حتى اللحظة أبوابها أمام الزعيم الدرزي ربطاً بـ«الطعنة» التي وجهها يوم انقلب على خياراته الحكومية. وإلى حين يخلق الله ما لا يعلمه رجاله،، يبدو أن جنبلاط يحاول اختصار المسافات بينه وبين قواعده: يبدي اهتماماً مميزاً بإقليم الخروب من باب تمتين حضوره في الخاصرة «الزرقاء»، علّه ينجح في تجنّب كأس «الافتراق الانتخابي» المرّ. وفي السياق عينه، يحاول «أبو تيمور» تعزيز وضعه داخل البيت الدرزي. وهو لهذا الشأن يكثف لقاءاته مع المؤسسة الدينية الدرزية. يلتقي البعيدين، قبل القريبين منهم. أما «الربيع» الذي قرر زرع براعمه في حزبه، فهو لا يزال قيد الاختبار، بانتظار ثمار «النفضة» التي أطلقها، والتي لن يكون فعلها كما قولها، إلّا إذا التزام البيك بوعده بأن يكون رئيساً «لمرة أخيرة»...

في السياسة، يلعب وليد جنبلاط، لكن الأمن خط أحمر. ممنوع الاشتباك لا في الشويفات ولا في غيرها. لذلك يبقي قنواته مفتوحة مع مخابرات الجيش كما مع المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم وقيادة قوى الأمن الداخلي. حذار اللعب بموضوع «اليونيفيل» والخط الأزرق. الصواريخ المجهولة بالنسبة اليه معلومة، والمهم أن لا ننزلق الى حيث يريد البعض لنا أن ننزلق.


Script executed in 0.19813799858093