أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

نجيب ابراهيم ابن الـ 110 أعوام يروي: يوميات لبناني منذ العثمانيين وحتى الصهاينة!

الثلاثاء 10 كانون الثاني , 2012 03:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 8,621 زائر

نجيب ابراهيم ابن الـ 110 أعوام يروي: يوميات لبناني منذ العثمانيين وحتى الصهاينة!

يفتقد أبو علي «أكلات» قديمة لم تعد تطهى إلا نادراً مثل المجدرة بالبرغل، والرشتا بالعدس، والتبولة بالدهن. ويقول إنها كانت تختزن في مكوناتها كافة أسباب النشاط والصحة. ويسأل: «أين رغيف الخبز بالأمس، المصنّع من القمح الصافي فقط، والمخبوز على التنور، من رغيف اليوم؟!». 


جدّ القرية بأكملها 


ليس نجيب إبراهيم بالنسبة إلى أهل قريته عيناتا جدّاً لأحفاده الواحد والأربعين فقط، بل هو جد الضيعة بأكملها. ولمشاركته معهم في المناسبات الاجتماعية مكانتها المميزة عندهم. فلا تذهب عائلة لطلب يد فتاة للزواج من ابنها من دون اصطحاب أبو علي معها، وهو المكلف دائماً بافتتاح مراسم «الطلبة». ولا يسير وفد من القرية لأداء واجب العزاء في بلدة مجاورة، إلا ويكون الجد نجيب في مقدمته. 

ولكلمة أبو علي وقعها المؤثر في حل الخلافات الشخصية والعائلية التي يمكن أن تنشأ بين أبناء البلدة الواحدة، فينزل الجميع عند خاطره ويأخذون بنصحائه. زد على ذلك أن أبا علي مازال، حتى اليوم، سيد «الدبكة» وفارسها، ويتسابق الشباب والصبايا لشبك أيديهم بيديه في حلقات الرقص. 


طلاق بسبب الدبكة 


لم يدم زواج أبو علي الأول أكثر من أسبوعين. الدبكة هي السبب. فقد اعتبر مشاركة زوجته في رقصات الدبكة بعد الزواج انتقاصاً من هيبة والده كعالم دين. ما لم تقبل به الزوجة. أما زواجه الثاني والأخير فاستمرّ حتى وفاة الزوجة. 

يسترجع أبو علي تقاليد وعادات من الماضي «كانت تشدّ قلوب الناس برابط من المحبة والوثوق». فالأفراح مثلاً، كانت تقام في ساحة الضيعة، وتستمر لثلاثة أيام بلياليها، ويشارك فيها جميع أهل القرية، رقصاً وغناء، كما بتقديم الهدايا للعروسين: «والعريس المقتدر مادياً، كان يوزع الذبائح على جميع بيوت «البلد»، وخاصة الفقراء منهم. وكانت العادة أن يقدم العريس لوالد العروس هدية هي عبارة عن عشر ليرات ذهبية عند عقد القران. وكانت العروس تنتقل الى منزل عريسها على فرس أبيض، وسط الأهازيج وصيحات الحوربة».

والعونة، «كانت إحدى أجمل العادات. وهي عبارة عن اجتماع البلد على مساعدة شخص يمر بضيقة أو في أمر بحاجة فيه لمد يد العون، بمجرد سماعهم المختار يطرح الصوت قائلاً: العونة لفلان يا أهل البلد». 

ويقول أبو علي أيضاً إن «الناس كانت تفقد بعضها البعض في المناسبات العامة. فإذا حدث وتغيب شخص ما عن إحدى المناسبات، كان المختار يكلف من يذهب للسؤال عنه. وكانت المخاتير تنجز معاملات الناس من دون تقاضي أي رسوم». 


ذكريات من أيام «العثملّي» 


لم تنل سنوات العمر من ذاكرة أبو علي، فهي ما زالت تعمل بهمّة ونشاط. يسحب منها صوراً من أيام الحرب العالمية الأولى والاحتلال التركي للبنان. ابتلى الناس، في ذلك الوقت، بالفقر والجوع والمرض، بعدما غزت حشرات «الجراد» المزروعات وقضت عليها بالكامل. وأثقلت من وطأة المصيبة، مصادرة عناصر الجيش العثماني لكل ما كانوا يجدونه من طعام في المنازل. 

كان الناس يجرشون سرّاً ما يصلهم من قمح وشعير وذرة من حوران، ويصنعون منه خبزاً، لتأمين استمرارية العيش. وقد اعتقل الأتراك حينها، نجيب إبراهيم، وهو في الثانية عشرة من عمره، وسجنوه في ثكنة جديدة مرجعيون. بقي فيها مدة 12 يوماً، حتى تمكن والده من جمع خمسمئة ليرة ذهبية بدل تحريره من «السخرة»، وهي الخدمة العسكرية الإجبارية التي فرضها الأتراك في الحرب العالمية الاولى على الرجال الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثانية عشرة والستين في البلدان التي كانت خاضعة لاحتلالهم. 

ومن تلك المرحلة، تحفر في وجدان أبي علي حادثة نادرة شهدها عن كثب، وهي انقطاع حبل المشنقة مرتين في أثناء تنفيذ الأتراك لحكمين بالإعدام شنقاً، بحق العلامة محمد جواد فضل الله في ساحة بنت جبيل، بتهمة مقاومته للاحتلال. ما دفعهم لأخذه بعيداً، وتنفيذ الحكم به، وسط صيحات الغضب، ومحاولات الناس مهاجمة خشبة الإعدام لإنقاذه.


.. ثم كان الفرنسيون 


بعد الاحتلال التركي، جثم الانتداب الفرنسي على صدر الوطن. أرهق الفرنسيون الناس بالضرائب، إذ فرضوا رسماً قدره عشرة «بشالك» على الشخص (عملة تركية كانت متداولة آنذاك)، وخمسة على «الدابة»: «وحاولوا تأليب الناس طائفياً على بعضهم البعض. كما عمدوا إلى مصادرة أملاك شاسعة من القرى والبلدات، ومنحها إلى أشخاص موالين لهم. ومن هنا كانت بداية نشوء الزعامات الإقطاعية في الجنوب». 

ويروي أبو علي أن «شاويش فرنسي في مخفر عيناتا» حاول تغريمه عشرة بشالك إضافية، بحجة أنه لا يعتني بحصانه كما يجب. اعتراض أبو علي، قابله الشاويش برفع السوط بوجهه، شاتماً البلاد وأهلها. فما كان من شيخ شباب البلدة إلا أن أنزل الشاويش عن حصانه بالقوة، على مرأى من الناس، مهدّداً إياه بعصاه. كاد الأمر يتطور إلى معركة بين الفرنسيين والأهالي بعدما أصرّ الفرنسيون على اعتقال نجيب. مفاوضات اللحظات الأخيرة أثمرت تسوية قضت باعتذار الشاويش وتقديم أبو علي له «مدّ» شعير علفاً لحصانه. 


دخول «الجديد» إلى القرية 


لا يستطيع أبو علي وصف مقدار الانبهار والدهشة الذي ساد بين الناس، وهم يشاهدون دخول السيارة الأولى إلى بلدتهم في العام 1920، وكان يقودها شخص من آل عبد الله من بلدة الخيام. فراحوا يعطون لمصابيحها المضاءة تفاسير متعددة. 

وبدوره، نال بابور الكاز الأول الذي دخل إلى القرية نصيبه من الاهتمام والترحيب، وكان والد أبي علي هو من اشتراه من بائع كاز وافد من بيروت، قضى ساعات يرشد أهل المنزل إلى كيفية استعماله. يقول أبو علي إن أهل القرية، عندما علموا بأمر الوافد الجديد، «أتوا إلى منزلنا لمشاهدته والتعرف الى خصائصه». وبعضهم راح يتسابق بالنفخ عليه لإطفاء ناره، من دون أن يفطن إلى دور المفتاح الذي أشعله. وللراديو أيضاً نصيب في ذكريات نجيب إبراهيم. حضوره الأول في عيناتا كان في منزل «خليل أبو عبدو»، «وقد تزامن مع بدء أحداث نكبة فلسطين»، فكان صاحبه يضعه تحت خيمة على سطح منزله، بينما يتحلق الناس حوله لتسقط عليهم أخبار فلسطين. 


إلى بيروت وحيفا.. سيراً على الأقدام 


كانت المرة الأولى التي زار فيها نجيب إبراهيم بيروت، في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وأتاها برفقة شباب من البلدة، للتفرج على العمارة الأولى التي شيدت على الطريقة الحديثة، وهي بناية «العسيلي». استغرقت الرحلة من عيناتا الى بيروت 16 ساعة، سيراً على الأقدام. 

يصف أبو علي شارع الحمراء حينها بأنه «كان ضيقاً بالكاد يتسع لرجل ودابته، وأرضه مكسوة بالبلاط، وتنتشر على جوانبه حقول الصبار وأشجار المقساس».

أما الرحلة إلى حيفا فكانت تستغرق نصف وقت الرحلة إلى بيروت، مشياً على الأقدام. ولا يغيب عن ذاكرة أبي علي جمال بحيرة طبريا، ومياهها العذبة، ويقول إن السباحة فيها كانت تعتبر دواء شافياً للبدن من كثير من الأمراض.. ولا سيما مرض العصبي. 

ولم يسكت أبو علي عندما حاول أحد الوافدين الصهاينة استفزازه، واصفاً العرب بعبارات نابية. فكانت معركة استطاع فيها أبو علي أن يثخن ثلاثة منهم بالجراح من دون أن يصاب بأذى، كما يقول. 

محاميه كميل شمعون! 

كادت صولات «المرجلة» عند الجد نجيب تودي به إلى ما وراء القضبان لسنوات عديدة. عندما ذهب مرة مع مجموعة من أهل البلدة لمناصرة شخص تعرّض للإهانة في قرية مجاورة، يقول أبو علي «قمنا بمصادرة كل ما يملك المعتدي من خيل وحمير وجمال. وفي طريق العودة، وقعنا في كمين للدرك الفرنسي». أودع أبو علي في سجن صيدا قبل أن يحول الى محكمة صور، حيث توكل للدفاع عنه المحامي كميل شمعون، رئيس الجمهورية فيما بعد! حكم القاضي سامي الصلح، وهو رئيس الحكومة اللاحق، على نجيب ابراهيم بالسجن لثلاث سنوات. عندها، نظر إليه شمعون قائلاً: «إذا كان هذا هو القانون فلنضعه تحت إبطنا إذاً»، ومشى خارجاً. فما كان من سامي الصلح إلا أن صرخ به داعياً إياه للانتظار. ثم عادت هيئة المحكمة للتداول من جديد، وحكمت على أبي علي بالبراءة. 

يقول ابو علي إن الحادثة هذه كانت سبباً في صداقة نشأت بينه وبين الرئيس شمعون، «الذي أصبح يأتي إلى عيناتا باستمرار للصيد وزيارتي في منزلي».


«رجل محترم» في لحظات تاريخية


في يوم الاستقلال، اعتقل الفرنسيون في سرايا بنت جبيل شخصيات جنوبية عديدة، منها موسى الزين وعلي بزي والحاج علي بيضون وغيرهم. حينها، قاد أبو علي مجموعة من شباب المنطقة الى السرايا، وقاموا بالدخول إليها وتكسير باب السجن واطلاق سراح المعتقلين! 

وإثر سقوط فلسطين بيد الصهاينة في العام 1948، حاول الضابط في الجيش اللبناني محمد زغيب التصدي لهم في منطقة المالكية. فكان نجيب ابراهيم، ومعه مجموعة من الشباب الجنوبي، من جنده، وأصيب برصاصة قاتلة. لا ينسى أبو علي إصرار الشهيد زغيب، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، على المقاتلين بعدم الالتفات اليه والاستمرار في المعركة. وفي العام 1975، مع بداية الحرب الأهلية، كاد الموت أن يخطف أبا علي. إذ فاجأه قناص بين الشياح وعين الرمانة صارخاً به: «استعد للموت يا أبو عقال».. لحظات سريعة عبر خلالها شخص مجهول يهرب من القصف، أمام القناص، كانت كافية بأن يموت الشخص، وينجو نجيب ابراهيم.

لم يكن أبو علي في شيخوخته غيره في شبابه على مستوى القضايا الوطنية. فهو رفض رفضاً قاطعاً التعاون مع الاحتلال الصهيوني بعد اجتياح العام 1982. وعندما قصد الضابط الصهيوني «حاييم» منزله عارضاً عليه الانضمام الى لجنة من البلدة تتعاون مع جيش الاحتلال، أجابه أبو علي: «خلقت محترماً وعشت محترماً وأريد أن أموت محترماً».. فما كان من الضابط الصهيوني المرافق إلا أن توجه إلى الضابط حاييم بالقول: «سيدي، نحن لا ينفعنا إلا أشخاص من أمثال سعد حداد وعقل هاشم». 


Script executed in 0.18743705749512