أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

على الطريق إلى كربلاء: حسين حمود ينجو بـ«رحلة الأربعين»

الخميس 09 شباط , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 5,300 زائر

على الطريق إلى كربلاء: حسين حمود ينجو بـ«رحلة الأربعين»

أربعة مسافرين، هربوا من الجيش العراقي. أصبحوا وحيدين، تائهين عن مجموعتهم، في بلد غريب. على مسافة أربع ساعات من بغداد كان عليهم أن يقرّروا، إمّا الصعود في الباص العائد إلى بيروت أو استقلال ذلك الذي يدنيهم خطوة إضافيّة من كربلاء، لكن العودة إلى بيروت لم تمرّ حتى كفكرة في رأس حسين حمود، أحد المسافرين الأربعة، إذ إنّ «الحسين» كان قد نادى يوماً، على مقربة منه، «أما من ناصر ينصرنا!». سمع حمّود النداء في الجوّ، فأصبح الطريق واضحاً بالنسبة إليه. دخول بغداد، ثم إلى كربلاء سِر.

حسين حمّود هو واحد من لبنانيين كثر، تجاهلوا تحذيرات الناس، وقرّروا الذهاب منذ أيام إلى كربلاء، لإحياء أربعين الإمام الحسين. كيف كانت رحلته؟ من أصعب ما يكون، فهواء أرض الكرّ والبلاء يلفح كل من يقترب منها. مع ذلك يقول حمّود إنّه لم يندم لحظة على الرحلة، إذ قبل إعداد العدّة لإحياء الأربعين في كربلاء، يتوقّع الزائرون مواجهة مخاطر عدّة، أبرزها التفجيرات التي قد تستهدفهم. ورغم أنّ كثيرين لم يشجّعوه على الذهاب، إلّا أنّ «الدافع الديني والعقائدي أقوى من الخوف» بالنسبة إليه. «نحن تربّينا على مجالس أبي عبد الله الحسين وهو قدوتنا، لكننا أيضاً نسعى إلى التقرّب من الله من خلال هذا الإمام». اجتمع حسين مع 99 شخصاً من الأصدقاء وزملاء الكشافة ليؤلّفوا فريقاً ينطلق برّاً إلى كربلاء، لكن الرحلّة بدأت تتعثّر، بمجرّد اجتياز الباصين الأراضي السوريّة إلى العراقيّة. فعلى بعد 120 كلم عن الحدود، أوقف الجيش العراقي الباصين المسافرين ليلاً ومنعهم من المتابعة، بسبب عدم وجود مرافق معهم من إحدى الحملات التي تنظّم رحلات إلى العراق. أُجبروا على التراجع 10 كيلومترات إلى الوراء. تركوهم، من بعدها، في منتصف الليل، في صحراء الأنبار، ليحاولوا الصمود وحدهم فيها حتى الصباح، معتقدين أنّ الصقيع، الذي لم يعرفوا له مثيلاً، هو وحده ما يتهدّدهم في الفضاء المكشوف. أضرموا النار وكنسوا حولها، كي يهيّئوا مكاناً للنوم، متّكلين على الأمل الذي يعود مع الصباح لإيجاد حلّ لمشكلتهم، لكن في الواحدة بعد منتصف الليل، وصلت دوريّة أخرى للجيش لتخبرهم بأنّ المنطقة خطرة جداً أمنياً، ولا يمكنهم أن يبيتوا الليلة فيها. عليهم أن يتراجعوا 10 كيلومترات أخرى إلى الوراء. عندها قرّر أحد الباصات أنّه لم يعد يريد متابعة الرحلة لأن محرّكه توقّف عن العمل! لم يكن لدى الشباب من خيار، سوى دفعه في الصحراء. «طعم البرد هناك مختلف عن أيّ شيء عرفته من قبل. في اللحظة التي كنت أتنشّق فيها الهواء، كنت أشعر كأنّ رئتيّ تجمّدتا» يقول حسين. عندما وصلوا إلى استراحة «المدينة المنوّرة» في الأنبار، ارتأى بعض الشبّان الاتصال بأصدقاء لهم في «مكتب الصدر» لعلّهم يساعدونهم. وبالفعل، حضرت النجدة. «رجل برتبة عالية في شرطة الأنبار، ظهر أمامنا» يقول حسين. اعتذر من المجموعة وقرّر مساعدتها، فحمل الجيش في ناقلاته جزءاً من المسافرين، بينما تكدّس الباقون في باص واحد.
في ناقلات الجيش المكشوفة عاد البرد ليضرب. شاهد حسين الغطاء على جسد صديقه يتحوّل إلى كرة ثلجيّة. ثم انخفضت الحرارة في جسد زميل آخر له، شارف على الموت برداً لولا أنّهم احتضنوه في الوقت المناسب بعدد من الأغطية وأضرموا النار إلى جانبه، حتى تورّد جسده من جديد، لكن حسين وثلاثة من رفاقه قرّروا أنّهم لن يتحمّلوا المزيد من البرد مع الجيش، فنظّموا عملية هروبهم. ربما كان الهروب أكثر دفئاً إلّا أنّه تركهم وحيدين في بلد غريب. بعد وقت قليل، وجدوا باصاً ينقلهم إلى النجف، حيث عادوا واجتمعوا بأصدقائهم. الخطة التالية كانت في قطع المسافة بين النجف وكربلاء سيراً على الأقدام. تقليد السير إلى كربلاء مرتبط، بالنسبة إلى حمّود أيضاً، باستغاثة «الحسين» الأخيرة. كان حمود قد اشترى من بيروت حذاءً رياضياً مناسباً للرحلة، «خفيف ومريح». بين النجف وكربلاء، صحراء كبيرة. يومان من السير على الأقدام، مساجد وحسينيات كدليل وحيد على الحياة، و 1550 عمود إنارة. الأعمدة هذه، هي الشيء الثابت الوحيد في الصحراء التي يقطعها المسافرون.
في «الأربعين»، يصل النجف بكربلاء، خطّ بشري واحد. يقول حسين إنّ عدد الزوّار قد يصل إلى 18 مليوناً. هي 15 مليوناً بحسب آمال الدين الهرّ، محافظ كربلاء، الذي طلب أخيراً، من لجنة كتاب «غينيس» التوجّه إلى المحافظة في «أربعين الحسين» المقبل ليحصوا بأنفسهم الأعداد، ويقنع المشكّكين بصحّتها، وبإدراج كربلاء في الكتاب لكونها تحتضن أكبر «مهرجان» في العالم.
على الطريق الصحراوي، ينصب العراقيون «مضافات». أو هي أكشاك صغيرة تهدي المسافرين الماء و«القيمة» (الطبق التقليدي) والشاي والعصير... عند العمود الرقم 600 دخل حسين إلى أحد المساجد للصلاة، لكنه عندما خرج فوجئ باختفاء حذائه الرياضي! فما كان من أحد أصدقائه إلّا أن أعاره «مشّاية»، جعلته يفتقد بشدّة حذاءه المريح، إذ إنه بعد وقت قليل، بدأت رجلاه تمتلئان بالثآليل المؤلمة، فدخل النقاط الطبيّة كلّها على الطريق من دون أن يجد له أحدهم الحلّ، حتى أصبحت رجلاه، اللتان غطاهما الشاش الطبي، كجبيرتين ثقيلتين يمشي بهما إلى أرض الطفّ. كل ذلك ولم يفكّر حسين لحظة واحدة في العودة إلى بلده. واصل المسير حتى تمكّن من استقلال «الستّوتة»، وسيلة التنقّل الوحيدة في كربلاء في ذكرى الأربعين.


«الحسين لكلّ الناس»

حول مقام الإمام الحسين كانت المواكب تردّد الـ«لطميّات». يقول حسين: «كلّ موكب كنّا نمرّ بجانبه، كان يردّد لطميّة بلغة مختلفة»، كأنه انتبه فجأة إلى هذا الأمر «وفهمنا حينها أن الحسين ليس حكراً على العرب». لا يخفي تأثره لحظة دخوله إلى المقام «أجهشت بالبكاء كطفل صغير ولا أستطيع أن أشرح السبب». لافتاً إلى أن الجوّ في مقام «أبي الفضل العباس» مختلف. «هناك الناس يشعرون بفرح». مجدّداً لا يعرف السبب، «لكن ربما هناك فرق بين الشعور الذي يبعثه من استشهد بين يدي أخيه، وذلك الذي بقي حتى النهاية ليستشهد وحيداً».


Script executed in 0.18962597846985