أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

اللبنـانيّون يتفقـون علـى خلافهـم فـي حـبّ الوطـن: أي وطـن؟

الإثنين 13 شباط , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 5,695 زائر

اللبنـانيّون يتفقـون علـى خلافهـم فـي حـبّ الوطـن: أي وطـن؟

غرق الخمسيني الدمث، ابن بلدة برج البراجنة، الواقعة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، في نوبة ضحك هستــيرية. فالســؤال «هل أنت، كمواطن، مع الإعلان عن عيد سنوي رسمي، بعنوان عيد حب الوطن.. وهل تشعر بالانتماء إلى وطنك؟» غريب ويضفي صبغة سريالية، وسط التناحر السياسي والغلاء المعيشي، وتوقيته مع «عيد الحب»، غداً، 

رفع الخمسيني سبابة يده اليمنى، كإشارة لانتظار، ونهض عن كرسيه الخشبي المتهالك، في خطوات متثاقلة، ثم عاد مصطحباً فتى في الخامسة عشرة من عمره، بدا كأنه استيقظ لتوّه. كان يفرك عينيه الزائغتين، ويسرّح شعره كيفما اتفق.

متعمداً الحديث بصوت عال، في محله التجاري المطلّ على شارع فرعي مكتظ بالمارة، قال الرجل ان هذا الزمان قد سلّم نفسه، طواعية، للأجيال المقبلة. «أنا متفائل بهذا الجيل الجديد. هو يحب الوطن. أما نحن فنسأل: أي وطن؟».

باللكنة البرجاوية المعروفة، طلب الرجل من ابنه الإجابة عن «سؤال إذا إنت مع إنو يصير فيه عيد اسمو عيد الحب الوطني؟ يعني يوم تحب فيه وطنك؟»، فدفع الفتى صدره إلى الأمام، وزفر تنهيدة تفكّر لبرهة. 

بدا كواحد من مشتركي برنامج «من سيربح المليون؟»، مستغرقاً في التفكير بصمت حذر. «أجب عن السؤال. أنت ابن الوطن، فهل تحبذ أن يُحدد يوماً لحب الوطن؟»، سأل الأب بنبرة تحاول إخفاء نبرة غضب، فأجابه الفتى، بسؤال هادئ: «هل ستمنحنا المدرسة، في هذا العيد، يوم عطلة؟».


الويل لكم


تتوزع في شوارع برج البراجنة، وسائر مناطق الضاحية، صور عملاقة مثبتة على جدران المباني، تطلّ منها وجوه ضاحكة حيناً، وعابسة حيناً آخر، في وضعيات مختلفة: ذراعان متشابكتان، وعنق مشرئبة مع تواضع متكلّف. قبضة «بطل» الصورة تلوّح في الفضاء بزهوّ. «البطل» يمشي في لقطة درامية مطرقاً رأسه، وغيرها من الوضعيات.

لأبطال الصور أسماء. هم سياسيون معروفون. أسماء «الأبطال» لا تُدّون على الصور، فيما البطل الحقيقي الذي رفعها، وتكلّف صنعها، يدمغ اسمه بحرف عريض. حجم الحرف يكبر عند التعريف عن الصورة: «يا ويلنا من بعدك»، تقول إحدى الصور.

في الشياح تتضاعف أعداد الصور، ويتقلّص عدد «الأبطال» إلى «بطل» واحد، متربعاً على شوارع المنطقة: رئيس مجلس النواب نبيه برّي. الويل، كما «يا ويلنا من بعدك»، ينتقل من صورة إلى أخرى، محاكياً التهديد والتساؤل ذاته باستفزاز: «ويلكم إذا نفد صبره»، و«بالله عليك، من أين أتيت؟»، و«لولا الهاء، لكنت أنت النبي»، وتساؤلات أخرى.

مصطحباً زميله في المهنة، عاد م. س. من الشياح إلى أحد صالونات الحلاقة في الضاحية. أكثر من خمسة أعوام مرّت على عملية سرقة نوعية، كان الرجل ضحيتها، بعدما سرقه موظف أحد المصارف أكثر من عشرين مليون ليرة، في أسلوب بوليسي مصرفي مدروس.

يقول صاحب الصالون، بنبرة ساخرة: «عيد حب الوطن؟ فكرة جميلة، لكن الشعب يصبو إلى تحديد أعياد أخرى، كعيد حبّ السلاح، أو عيد حبّ الزعماء. أليس كذلك يا حاج؟»، يسأل موجهاً خيط النقاش إلى رجل خمسيني، كان شارد الذهن قبل التقاطه الخيط.

يهز الرجل رأسه في أسلوب مضحك، كأنه يريد أن يقول أي شيء، في مقابل عودته إلى شروده، في مكان ما، بعيداً من سؤال لا يروقه تضييع وقته في الإجابة عنه، أو حتى التفكير فيه. يضحك صاحب الصالون، مزهواً بحدسه الذي أصاب. 

م. س. يروي لأحد الزبائن قصّته. يدلّ أسلوبه في سرد القصة، على أن الموظف قد سرقه قبل ساعات: يقفز مع كل كلمة رافعاً يديه عالياً، ثم يقطب حاجبيه، ويشتم الوجهاء المحسوبين على الزعماء، الذين أقنعوه بضرورة التنازل عن الدعوى، متوعدّين باسترداد المبلغ.

يقول، كأن السؤال قد سرق منه ما تبقى من المبلغ الموعود، بحنق: «هل هذه دعابة؟ أحب وطني؟ أحب أن يسرقني هؤلاء؟ يلعن أبو الوطن. لماذا أحب أحداً لا يحبني؟ حب من طرف واحد، كالأفلام الهندية؟». يقفز، مستكملاً قصّته، فيكتشف أن محدّثه قد اختفى. 

وُلد صاحب الصالون في الشياح، وعاش فيها سنواته متعلماً مهنة الحلاقة، بعدما ترك مدرسته باكراً. يهمس الرجل قائلاً: «أنا أحب وطني. أحب هذا البلد، بلدي. لكن إذا عبّرت عن رأيي بصراحة، فإن زبائني ربما يضحكون عليّ. كلمة حبّ مقرونة بعشق الأشخاص فقط، لا الأشياء، فكيف إذا كانت مقترنة في بلد بخيل؟».


بعد الربّ


تختفي الضوضاء في عين الرمانة، مقارنة بزحمة الشياح. يطغى على شوارع المنطقة سكون يسكنها ليلاً ونهاراً. خطّ السير الفاصل بين عين الرمانة والشياح، يشبه جداراً وهمياً عازلاً، أشبه بجدار برلين.

تعيش عين الرمانة أيامها بهدوء. صور «الأبطال» هنا قليلة، صغيرة الحجم. «لو أن في الشوارع مراحيض لاحتضانها، ربما لكانت الصور أكثر انتشاراً»، يقول ابن المنطقة سمير سلامة، كبداية حامية لحوار بدت نتائجه واضحة سلفاً.

يحمل الرجل بين يديه صحيفة محلية مغمورة. يتحدث بأسلوب مقتضب. يقول: «الوطن بعد الرب». لا بديل من الوطن، عند الرجل الستيني، و«كل أفراد عائلتي». 

في الضاحية، قال أحدهم إن المسيحيين يحبّون لبنان لأنه كريم معهم، فهو يغدق عليهم من كل خيراته. يهز الستيني رأسه بالنفي. لبنان، وفق الرجل، يحب الجميع، لكن زعماءه يكرهون أبناء الوطن. ماذا تحب في لبنان؟ يجيب: «كل شيء ما عدا الدولة». 

يرفض تفنيد الـ«كل شيء» قائلاً: «كل شيء»، فيما يوضح أن «الدولة» هي «الرؤساء والوزراء والزعماء، والنواب الـ129». يسأل هازئاً: «كم هو عددهم أصلاً؟».

بائع الخضر الذي يجرجر وراءه عربة خشبية هنا، لا يصرخ في الهواء. يلتفت يميناً ويساراً، ويمضي بعربته إلى الأمام، منتظراً إيماءة من زبون ما. يلوّح شقيق سمير بيده، ثم يتقدّم في اتجاه البائع مدمدماً بضع كلمات. يعود فارغ اليدين متذمراً من ارتفاع الأسعار. 

بائعو الخضر في الضاحية يملأون الفضاء، من مكبرات الصوت في سياراتهم، بأسعار بضاعتهم، مطلقين أرقاماً بلحن موسيقي صاخب. هدوء عين الرمانة يكبح تلقائياً أي صوت عال، فيما جلبة الضاحية تجذب الأصوات، وترفعها إلى الأعلى. 

يستغرب شقيق سمير السؤال. يرفع أحد حاجبيه، ويزم شفتيه، فيقول: «طبعاً أنا مع تعيين يوم عيد لحب الوطن. فما نفعنا من عيد للعشّاق؟ وطبعاً أشعر بانتماء وطني، لكن السؤال يُفترض أن يوُجّه إلى الزعماء وليس الينا، نحن الشعب!». 

لكن الشعب هو من أتى بهؤلاء الزعماء والنواب إلى كراسيهم. «غير صحيح. ثمة نواب فازوا بثلاثة أصوات. أما الزعماء فإنهم يجثمون على صدورنا عنوة!». يهمس سمير في أذن شقيقه، فيزداد غضب الشقيق: «المسيحيون يحبون لبنان لأنه كريم معهم؟». يهز بكتفيه، معاوداً تكرار السؤال، وملوحاً بأصابع يديه مستغرباً.

تسير أجوبة أبناء عين الرمانة، في سكة مشابهة لنسق أجوبة الشقيقين سلامة. يقولون إنهم يحبّون وطنهم، ولو أن الاحتفال بحبه قد يصيب بعضهم بالخجل. يكشف السؤال عن أسنانهم، يضحكون. ثم يقولون إن الخراب الذي أصاب بلدهم، من حروب ودمار وشتات وتهجير، لم يحل دون تشبثهم به. 


هل أنا لبناني؟


يرتفع صوت الأذان من مسجد الإمام علي ابن أبي طالب، في الطريق الجديدة، إيذاناً بحلول موعد صلاة العصر. تتداخل أصوات الأذان بأصوات أبواق السيارات. زحمة سير كازدحام صور السياسيين على أعمدة الكهرباء، وجدران البيوت.

بيوت الطريق الجديدة تشبه بيوت الضاحية، وعين الرمانة. لكن أهل بيوتها، في غالبيتهم، لا يتفقون في السياسية مع أبناء الضاحية، وربما يتفقون مع فئة معيّنة من أهل بيوت عين الرمانة. 

أهالي الضاحية، والطريق الجديدة، وعين الرمانة، يتفقون على خلافهم في حبّ الوطن. يسألون: «أي وطن؟ فلكل منّا فكر ورأي ومعتقد ونهج. لكل منّا وطن». تبدأ حبّات المطر بالهطول، حبيبات متقطعة، وتعلو أصوات أبواق السيارات. 

من «الجامعة العربية» إلى منزلها المجاور، تعود الفتاة العشرينية هبة، مستمتعة في المشي على مهل، قبل هبوب عاصفة الدرس في المنزل. تتحدث الفتاة بإيقاع سريع، محتمة على محدثها الجري وراء كلماتها بسرعة، على عكس طبعها الهادئ، في المشي.

ترسم الفتاة على شفتيها ابتسامة سرعان ما تسحبها. تقول إنها تذكرت زميلتها في الجامعة. تهز بكتفيها في غضب مفتعل، لأنها نسيت اسم زميلتها. «لكن المهم، لقد سخر كل أصدقائي منها، عندما قالت لنا إنها تحب لبنان».

لماذا قالت لكم إنها تحبه؟ ماذا كان السؤال؟ ترفع هبة رأسها قليلاً محاولة التذكر، ثم تقول: «لا أذكر بصراحة. لكني أذكر أن عبارتها تحوّلت إلى دعابة في الجامعة. ربما أصبح جوابي عن السؤال، واضحاً الآن؟». تهمّ الفتاة بالركض على الرصيف، تحت زخّات المطر التي اشتدّ هطولها.

قبل شروق الشمس، يفتح أبوعمر فرن المناقيش الذي ورثه من والده. تقاسيم وجه الرجل قاسية ولا توحي بأنه ذو شخصية ممازحة، بيد أن حديثه مع الزبائن لا يخلو من الضحك والمُزاح.

يحمل الرجل على عاتقه مهمة الحديث، باسم «الشعب»، قائلاً بجدّية: «لم يخبره أحد معنى حب الوطن. حب البلد وبلادي بلادي، عبارات نسمعها في الأفلام المصرية. أما هؤلاء فقد تعوّدوا على حب الزعيم، وكره الخصم. حب السياسة. أما الوطن فربما يحبّونه، لكنهم لا يعرفونه، ولا يريدون».

يروي أبوعمر أنه ذات يوم، سأله ابنه البكر، من دون أي مقدمات: «من قال إنني لبناني؟ هل لأنني ولدت هنا؟ لماذا لست فرنسياً مثلاً؟». ومذ ذاك، أحس الأب بأن «الجيل الجديد لن يسأل عن وطنه كي يحبّه. سيسأل عن لقمة عيشه، وحقوقه. أما أنا، فأحب وطني. بصراحة، لا أدري. ربما لا أحبه». 


Script executed in 0.21220898628235